يعاني من يرهنون أنفسهم لخدمة الناس والمجتمع، من تصحر على مستوى عاطفتهم وإنسانيتهم، تراهم يجتهدون في سبيل إسعاد الناس وتقديم جميع الخدمات لهم، لكن المجتمع والناس تبخل عليهم بكلمات التقدير أو بتبادلهم المشاعر الإيجابية، متناسين أن هؤلاء الذين نذروا أنفسهم لخدمة الناس والمجتمع بشر، ويحتاجون الكلمة الطيبة ومقابلة الإحسان بالإحسان. ولأنهم أناس مثلنا فبالطبع لديهم حياة خاصة، وسنوات طوال تشكلت فيها خبراتهم وقناعاتهم الراسخة في خدمة الناس والمجتمع. “البلاد” ومن منطلق تسليط الضوء على هذه الشخصيات الوطنية الإنسانية بامتياز، تلتقي اليوم مع شخصية بحرينية تفردت بالعطاء على جميع المستويات؛ من أجل تحقيق الرفاهية الممكنة للمجتمع الذي يمثله، وسبرت الصحيفة أغوار أعماق رئيس مجلس بلدي الجنوبية عبدالله عبداللطيف في حوار عن شخصيته، بعيدًا عن منصبه، وقد كانت انطلاقة اللقاء كالتالي: كيف بدأت مشوارك المهني منذ الصغر في خدمة الوطن؟ بداية، كنت في سن الصغر عندما شاركت والدي في إحدى الحملات الانتخابية، حيث كنت من ضمن الأطفال الذين يشاركون في تركيب الإعلانات الدعائية في أيام الانتخابات البرلمانية التي شهدتها البحرين في العام 1973، حيث كنت أساعد في لصق الإعلانات على الجدران للمرشح للعضو البلدي (المجلس التأسيسي) خليفة الظهراني رئيس النواب الأسبق، وراشد بن جابر الغتم. كانت هذه تجربة لا تنسى بالنسبة لي، وقد تشكل وعيي السياسي منذ ذلك اليوم، على الرغم من أننا كنا أطفالا ولم نفهم كثيرا عن الانتخابات، لكننا كنا نعمل بحماس وحب. هل كان لهذه التجربة أي تأثير على مسيرتك المهنية في المستقبل؟ نعم، بلا شك، في تلك الأيام، كانت فكرة الانتخابات والعملية السياسية تبدو بعيدة بالنسبة لنا. لكن مع مرور الوقت، بدأت أتعلم وأكتسب مهارات من تجربتي في العمل. بعد فترة، عملت في بلدية المنطقة الجنوبية مفتشا صحيا في بلدية الرفاع الشرقي، وكانت تجربة غنية جدا تعلمت فيها الكثير عن العمل الحكومي. حدثنا بشكل أعمق عن تجربة عملك في بلدية المنطقة الجنوبية؟ كان لي الشرف أن أعمل تحت إشراف الشيخ محمد بن أحمد آل خليفة، مدير بلدية المنطقة الجنوبية آنذاك. كنت جزءا من فريق يعمل على تحسين الخدمات وتقديم الأفضل للمواطنين. عملت مفتشا صحيا، وفي هذه الفترة تعلمت الكثير عن الالتزام بالمواعيد، والانضباط في العمل، وأهمية الخدمة العامة، واستمرت هذه الفترة لمدة سنتين، ثم قررت الانتقال إلى مجال آخر. إلى أي مجال قررت الانتقال؟ بعد عملي في البلدية، تقدمت للعمل في الجمارك، وكان ذلك في العام 1984، والتحقت بجمارك جسر الملك فهد، وهو مشروع ضخم بالنسبة لنا في البحرين. كنت أعمل في البداية على إدخال بيانات السيارات، وشيئا فشيئا تطورت مهامي، حيث انتقلت للعمل في التفتيش. صف لنا تجربة عملك في جمارك جسر الملك فهد؟ كانت تجربة رائعة ومليئة بالتحديات. جسر الملك فهد كان بداية مرحلة جديدة بالنسبة لي، وكان لي شرف العمل مع زملائي في فريق الجمارك لمكافحة التهريب بكل أنواعه. تعلمت الكثير عن أساليب التفتيش وتحديد الأشياء الممنوعة مثل المخدرات والأسلحة وغيرها من المواد الممنوعة. في تلك الفترة، كان الجمارك في البحرين بحاجة إلى تطوير قدرات الموظفين، وكنت جزءا من هذه العملية. وأحب أن أشير إلى أن أبرز ما يمكنني أن أذكره هو عمليات ضبط المخدرات والأسلحة التي قمت بها، إضافة إلى المواد الممنوعة الأخرى التي كان يتم تهريبها عبر الجسر. كان لدينا ضوابط صارمة، وكنا نعمل بروح الفريق الواحد. الفضل يعود إلى العديد من القادة الذين عملت معهم، الذين كانوا دائما يوجهوننا ويوفرون لنا التدريب المستمر. وأيضا، عملنا بالتعاون مع وزارة الداخلية، خصوصا مع قسم المخدرات والإدارة العامة للمباحث، في ضبط عمليات التهريب. وأذكر أني قمت بعملية تفتيش ذات مرة، إذ أخرجت حبوبا ممنوعة من “لحية شخص”، رغم أنه قبل عملية التفتيش واجهت ممانعة من بعض الزملاء؛ لأنهم أفادوا بأنه “مطوع ملتحي أكيد يخاف الله”. ومن جملة الأمور الغريبة أيضا التي استخرجتها من عمليات التفتيش، إخراج مليون ريال سعودي من ظهر رجل على جسر الملك فهد كان يحاول تهريبها. من البحث والتقصي، علمنا أنه كانت لديك فكرة لإنشاء المتحف الجمركي، هل رأت هذه الفكرة النور؟ كانت فكرة المتحف الجمركي فكرة شخصية في البداية، حيث أردت أن يكون هناك مكان يعرض الضبطيات التي تم تنفيذها في الجمارك ويكون بمثابة توعية للمجتمع بشأن خطورة التهريب. وفعلا تم تنفيذ الفكرة ودشن المتحف على جسر الملك فهد، وعرضت فيه طرق وأساليب تهريب المخدرات والأسلحة، وشاركت في عرض المضبوطات وآليات التهريب في المدارس؛ لتوعية الطلبة والناشئة بخطورة مثل هذه الأفعال، وأتذكر أن الطلاب كانوا يزورون المتحف ويتعرفون على أساليب التهريب وطرق اكتشافها. وكان لهذا المشروع تأثير كبير في رفع الوعي، وشهدت دعما من وزارة الداخلية والعديد من الشخصيات المهمة. ما قراءتك للدور المنوط بموظفي الجمارك في حماية الوطن؟ دور موظفي الجمارك لا يقل أهمية عن أي دور آخر في حماية أمن الوطن. في الجمارك كنا نعمل بشكل مستمر على تأمين المنافذ وحماية البحرين من الممنوعات. وأعتقد أن النجاح في هذا المجال يعتمد على التدريب المستمر للموظفين، وكذلك على قدرة كل فرد على التفكير الإبداعي في عملية التفتيش. فعبر التعامل الجيد مع المسافرين والتأكد من سلامة ما يدخل البلد، كنا نساهم بشكل مباشر في الحفاظ على الأمن والاستقرار، وكذلك هم الآن يفعلون. ما أبرز الدروس التي تعلمتها من مسيرتك المهنية؟ أبرز درس تعلمته هو أهمية العمل الجماعي والصدق في العمل. في الجمارك، كما في أي مكان آخر، لا يمكن لأي شخص أن يحقق النجاح بمفرده. لكن عندما يعمل الفريق بتعاون وتفان، يمكننا تحقيق الكثير. أعتقد أيضا أن الاستمرار في التعلم والتطوير الذاتي هو أمر بالغ الأهمية. يجب أن نكون دائما على استعداد للتكيف مع التغيرات والابتكارات في مجال عملنا. وهنا أحب أن أوجه خطابي إلى الأجيال القادمة التي تنوي العمل في الجمارك، وأحثهم على أن يكونوا دائما على استعداد للعمل بجد وبإخلاص في خدمة الوطن التي هي أسمى غاية، وكل وظيفة مهما كانت صغيرة أو كبيرة، تساهم في بناء المجتمع والحفاظ على أمنه. وأريدهم أن يتعلموا دائما من تجارب الآخرين، وأن يبحثوا عن طرق لتطوير أنفسكم، وألا يتوقفوا عن السعي وراء الكمال. وأهم ما في الأمر هو أن يعملوا بحب، وأن يتذكروا دائما أن خدمتهم للوطن هي مسؤولية عظيمة. وأود أن أوجه رسالة للمسؤولين في الجمارك، خصوصا في وزارة الداخلية، المنافذ التي تمثل الوطن يجب أن يكون العاملون فيها أشخاصا على قدر عالٍ من اللباقة والاحترام. هؤلاء الموظفون ليسوا فقط منفذين للقوانين، بل هم أول من يتعامل مع الوافدين إلى البلد، وبالتالي يجب أن يعكسوا صورة مشرقة للبلد. لا ينبغي أن يتعاملوا مع المسافرين بغلظة أو تعالٍ، بل يجب أن يكونوا مثالا للأدب والاحترام. وأقول أيضا إن المسؤولية التي يتحملها أي شخص في منصب يجب أن تكون على أساس خدمة الوطن، وليس لمصلحة شخصية أو نفوذ. كرسي المسؤولية ليس ملكا لأحد، بل هو أمانة، وعلينا أن نؤدي واجبنا بكل أمانة وصدق. الظلم لا مكان له، والعدالة والاحترام بين الموظفين أساسيان لتحقيق النجاح في أي مؤسسة. وهل انتقلت من العمل في الجمارك الى مرشح بلدي؟ كلا، قبل خوض معترك الانتخابات عملت في الطرود البريدية، وتجربتي كانت مليئة بالتحديات والفرص. بدأت العمل في الطرود البريدية دون معرفة كبيرة، لكنني تعلمت الكثير من الزملاء مع مرور الوقت. كنت أؤمن بأهمية الشفافية والاحترافية في العمل، فكنت دائما أركز على التنظيم وحل المشكلات بسرعة. في منصبي رئيسا للقسم، كان هدفي خلق بيئة عمل صحية ومنظمة، حيث كنت أستمع دائما لفريق العمل وأساعدهم في حل مشكلاتهم الشخصية. علمتني هذه التجربة أهمية التعاون والالتزام بالعمل الجاد لتحقيق النجاح المشترك. أنتقل معك إلى محطة أخرى من حياتك وهي دخول المعترك الانتخابي كمرشح بلدي؟ ونجاحك وتمثيلك المواطنين عبر المجلس البلدي؟ صف لنا أبرز المشاهد والتحديات؟ كانت التحديات كثيرة، ولكن كان الأهم بالنسبة لي هو تلبية احتياجات المواطنين. في البداية، كان لدينا تحديات كبيرة في كيفية تخصيص الميزانيات بشكل صحيح لضمان تنفيذ المشروعات. نلاحظ أن الكثير من الميزانيات كانت تتحول من باب إلى باب، ولكن للأسف في بعض الأحيان لم يتم تحقيق نتائج حقيقية، خصوصا في المشروعات التي تمس المواطن بشكل مباشر. كانت هناك ميزانيات مخصصة، لكن في بعض الأحيان، لم تكن تتم متابعة تنفيذ المشروعات بشكل جيد، أو كان هناك تأخير بسبب مشكلات أخرى. على سبيل المثال، في مشروعات مثل إسكان البحير، كان لدينا تأخير بسبب مشكلات تحت الأرض، مثل المياه الجوفية أو الكابلات القديمة. لكننا عملنا على التنسيق مع الوزارات المعنية مثل وزارة الأشغال ووزارة الكهرباء والماء، وواجهنا هذه التحديات بشكل جماعي. كنا دائما حريصين على التواصل مع المواطنين بشكل شفاف، لنوضح لهم سبب التأخير ونشرح التحديات التي نواجهها. كيف تؤثر هذه التحديات على المواطنين؟ المواطن هو أول من يتأثر بتأخير المشروعات أو تعثرها. ولذلك كان لدينا دائما استراتيجية في المجلس البلدي للتواصل مع المواطن وشرح الوضع بشكل صريح. إذا كانت هناك تأخيرات أو مشاكل، كنا نوضحها عبر قنوات التواصل الاجتماعي أو اللقاءات المباشرة. يبدو أن التواصل مع المواطنين له دور كبير في العمل البلدي؟ بالتأكيد، التواصل مع المواطنين كان دائما في صميم عملنا. أؤمن أن أي نجاح نحققه مرتبط أولا بمدى رضا المواطن. في بعض الأحيان، كان المواطن يواجه صعوبة في فهم سبب التأخير أو المشكلة التي نواجهها في المشروعات. ولكننا كنا دائما نحرص على الشفافية والوضوح. كنا نتابع المشروعات بشكل مستمر ونقدم تحديثات حقيقية بشأن ما يحدث. هل لديك كلمة توجهها للمواطنين في المنطقة الجنوبية؟ أولا، أود أن أقول للمواطنين إننا دائما هنا لخدمتهم، وأعتبرهم شركاء أساسيين في كل خطوة نخطوها. إذا كانت لدينا أي تأخيرات أو تحديات، نحن مستعدون دائما لتوضيح الأسباب والعمل على تجاوزها. كل مشروع نعمل عليه هو من أجل تحسين حياة المواطن، ومن أجل أن تكون منطقتنا أفضل. المواطن هو أولويتنا، ولا شيء يمكن أن يوقفنا عن تحقيق ذلك. وفي النهاية، الكرسي ليس ملكا لأحد، بل هو خدمة للمواطنين، وأنا دائما مستعد لخدمة منطقتي. أنت الآن مررت بعدد من المراحل المهنية، ما أبرز الدروس التي تعلمتها في مسيرتك؟ وما الجديد الذي تريد أن تقوله لنا؟ أولا أنا رجل متزوج ولدي ثلاثة أبناء وتخرجت من مدرسة الرفاع الشرقي الابتدائية للبنين، ومن ثم انتقلت إلى مدرسة أحمد الفاتح، ومن ثم تخرجت من مدرسة الرفاع الشرقي الثانوية للبنين. أما عن أبرز الدروس التي تعلمتها في حياتي المهنية والأسرية هو العمل الجماعي، والاحترام المتبادل بين الموظفين، والابتعاد عن القيل والقال. يجب أن نركز على العمل النظيف والواجب الوطني. كما أنني تعلمت أن المسؤولية تأتي مع الوعي الكبير، وأنه لا يجب أن يتعامل أحد مع كرسي المسؤولية كحق خاص به، بل هو أمانة عليه أن يؤديها بما يرضي الله، وبما يخدم المصلحة العامة. وفي الختام، هل سيترشح عبدالله عبداللطيف مرة أخرى في الانتخابات المقبلة؟ لا، لن أترشح مرة أخرى في العمل البلدي، سأعطي المجال لغيري، وهذا ما قلته سابقا، إن الكرسي ليس ملكا لأحد. آمل أن يوفقني الله في الخطوة المقبلة التي أنوي أن أخوضها، وإن لم أنجح سأرضى بما كتبه الله وأكتفي.