د- عطاء الله فشار

يقول ابن خلدون في مقدمته: إذا تبدلت الأخلاق، تبدل العمران، وإنما تحيا الأمم بأخلاقها، فإذا فسد الأخلاق فسد المجتمع، وإذا صلحت صلح العمران”.

إن رمضان يمثل فرصة لإعادة بناء الأخلاق الفردية والجماعية، وهو ما يشكل الأساس لأي استئناف حضاري حقيقي.

إن رمضان محطة روحية وتجديدية تتجاوز البعد الفردي إلى أفق حضاري واسع، حيث يمثل فرصة لاستئناف دورة النهضة وإعادة بناء الإنسان والمجتمع على أسس أخلاقية وروحية متينة. فكما كان رمضان شاهدًا على تحولات كبرى في تاريخ المسلمين، فإنه يظل، في كل عصر، دعوة لإحياء القيم التي تسهم في النهوض الحضاري.

 

رمضان كقوة دافعة للاستئناف الحضاري

الاستئناف الحضاري لا يتحقق إلا بتوافر عناصر البناء: الإنسان الواعي، القيم الصلبة، والفاعلية المجتمعية. وهنا يأتي رمضان ليعيد تشكيل الوعي الفردي والجماعي وفق أسس ثلاثية: التزكية، الإرادة، والعمل.

-التزكية: البناء الداخلي للإنسان

رمضان هو دورة مكثفة في التهذيب الذاتي، حيث تتجلى قيمة الانضباط في الصيام، وكبح الشهوات، وتوجيه الطاقات نحو معاني العبودية والسمو الأخلاقي. هذا البناء الداخلي ليس ترفًا فرديًا، بل هو لبنة أساسية في أي مشروع حضاري، إذ لا يمكن لمجتمع أن ينهض إلا بأفراد قادرين على ضبط دوافعهم، وتقديم المصلحة العامة على الرغبات الشخصية.

-الإرادة: القوة الدافعة نحو التغيير

لا حضارة بدون إرادة واعية. والصيام تدريب عملي على قوة الإرادة، حيث يتعلم الإنسان التحكم في حاجاته الأساسية، مما يولد في داخله قدرة على تجاوز التحديات الكبرى. فإذا استطاع الإنسان أن يتحكم في جوعه وعطشه وغرائزه، فإنه قادر على مواجهة التحديات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية. وهكذا، يصبح رمضان مدرسة لصناعة الإنسان القادر على كسر القيود والانطلاق نحو الإصلاح والتغيير.

-العمل: الانتقال من الروح إلى الفعل

التاريخ يشهد بأن رمضان لم يكن شهر خمول، بل شهر إنجازات وتحولات كبرى. من غزوة بدر، إلى فتح مكة، إلى انتصارات المسلمين في الأندلس، كان هذا الشهر مقرونًا بالعمل الفاعل. فالاستئناف الحضاري لا يتحقق بالدعوات النظرية، بل بتوظيف القيم الرمضانية في ميادين الفعل:

-في الاقتصاد، رمضان فرصة لتعزيز ثقافة الإنتاج والاستهلاك الواعي، بدلاً من الاستغراق في الإسراف والتبذير.

-في المعرفة، يمثل لحظة تأمل ومراجعة، حيث يكون الصيام محفزًا على القراءة، والتدبر، واستعادة روح الإبداع العلمي.

-في المجتمع، يعزز التكافل، ويعيد بناء الروابط الاجتماعية على أسس الرحمة والتعاون، مما يهيئ بيئة صلبة للنهوض الجماعي.

نحو مشروع نهضوي مستدام

التحدي الحقيقي يكمن في تحويل القيم الرمضانية إلى نهج دائم. فبدلاً من أن يكون رمضان مجرد محطة إيمانية مؤقتة، يجب أن يتحول إلى نقطة انطلاق لإعادة تشكيل المنظومة الحضارية، من خلال:

-ترسيخ قيم الانضباط والالتزام في العمل والإنتاج.

-تعزيز روح المبادرة والمسؤولية في الإصلاح المجتمعي.

-إعادة بناء الهوية الحضارية الإسلامية على أسس توازن بين الروح والعقل، بين القيم والمصالح.

إن الاستئناف الحضاري ليس مجرد شعار، بل حتمية تاريخية تتطلب أدواتها من الوعي، والإرادة، والفعل. ورمضان، بما يحمله من دروس في التزكية، والانضباط، والتكافل، يمثل الفرصة المثالية لاستعادة ديناميكية النهضة. فهل يكون رمضان مجرد شهر آخر في التقويم، أم نقطة تحول في مسارنا الحضاري؟ هذا السؤال يُجيب عنه كل فرد فينا، عبر الطريقة التي يحيي بها رمضان، لا كشهر صيام فقط، بل كشهر انبعاث حضاري.

التدوينة رمضان والاستئناف الحضاري ظهرت أولاً على الحوار الجزائرية.