د.فاروق طيفور
من أعجز آيات القرآن الكريم، الآية التي تحدت العالم كله عندما أكدت أن هذا القرآن محفوظ وعصي على التحريف والتزييف حيث تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه حيث قال تعالى: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”، وسماه الذكر وهو اسم من أسماء القرآن، فهل هنالك سر وراء هذه التسمية (الذكر) والتي تحولت إلى أهم اختصاص لرسالة الأنبياء والرسل حيث أمرهم تعالى بمهمة ووظيفة أساسية وهي التذكير (وذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر).
وكأنه سبحانه يقول لنا إن هذا الكتاب كله ذكر وذكرى وتذكير.
وقال الإمام السعدي رحمه الله: والتذكير نوعان:
النوع الأول: تذكير بما لم يُعرف تفصيله، مما عُرف مجمله بالفطر والعقول، فإن الله فَطر العقول على محبَّة الخير وإيثاره، وكراهية الشر والزهد فيه، وشرعه موافق لذلك، فكل أمر ونهي من الشرع فهو من التذكير، أن يذكر ما في المأمور من الخير والحسن، وما في المنهي عنه من المضار.
النوع الثاني: تذكير بما هو معلوم للمؤمنين، ولكن انسحبت عليه الغفلة، فيُذَكَّرُون بذلك، ويُكرَّر عليهم، ليرسخ في أذهانهم، وينتبهوا ويعمـلوا بما تذكروه من ذلك، وليحدث لهم نشاطًا وهمَّةً، توجب لهم الانتفاع والارتفاع.
ثم قال رحمه الله: وأخبر الله أن الذكرى تنفع المؤمنين، لأن ما معهم من الإيمان والخشية والإنابة، واتباع رضوان الله، يوجب لهم أن تنفع فيهم الذكرى، وتقع منهم الموعظة موضعًا كما قـال تعـالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ﴾ [الأعلى: 9 -11].
وهو من جهة أخرى يحدد مهمة الأنبياء والدعاة أن القرآن كله مجال للتذكير للناس كل الناس مهما كانت درجاتهم ومراتبهم، كما في قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ.
هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ التَّذْكِيرِ بِالْقُرْآنِ بِمَنْ يَخَافُ وَعِيدَ اللَّهِ.
وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلَى عُمُومِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [88 \ 21]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [20 \ 113] .
وَالتَّذْكِيرَ بِالْقُرْآنِ عَامٌّ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُنْتَفِعُ بِهِ هُوَ مَنْ يَخَافُ وَعِيدَ اللَّهِ، صَارَ كَأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [51].
وقد استخدم القرآن الكريم سياقات متنوعة لتحقيق مهمة التذكير، فضرب الأمثال لتحقيق التذكير فقال:
“تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿٢٥ ابراهيم﴾
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿٢٧ الزمر﴾
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ۚ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ۚ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ۗ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ﴿٨٠ الأنعام﴾
وأورد قصص الأنبياء والأمم ليكون ذلك عبرة وذكرى للناس فقال سبحانه: “وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَىٰ بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ” ﴿٤٣ القصص﴾
“وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَـٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿٤٦ القصص﴾ “وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ” ﴿٥١ القصص﴾
ولما كان الذكر رسالة جامعة جاء الخطاب الرباني جامعا وملخصا لأهم محاورها حتى قال أحدهم إنه لو لم ينزل من القرآن إلا هذه الآية لكفت “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿٩٠ النحل﴾.
ومن أشد ما يُتعجب منه في شأن الذكر هو الحديث الذي أخرجه أحمد في المسند والترمذي وابن ماجه في السنن وغيرهم عن أبى الدَّرْداء رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- “أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعمَالِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى”.
وبالنظر الى هذه الأهمية قال ابن القيم: (إن أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكراً لله عز وجل، فأفضل الصوام أكثرهم ذكراً لله عز وجل في صومهم، وأفضل المتصدقين أكثرهم ذكراً لله عز وجل، وأفضل الحاج أكثرهم ذكراً لله عز وجل. وهكذا سائر الأحوال). وهذه الأمثلة التي ذكرها ابن القيم هي أكثر الأعمال التي يقبل عليها المسلمون في عشر ذي الحجة.
وهنا نحتاج أن نتذكر فضل الذكر وعظمة الأجر المتعلق به حتى نحقق أكبر استفادة ممكنة من الأيام والأشهر الفاضلة التي منحنا الله إياها.
وقد خلص العز ابن عبد السلام في قواعده إلى أن هذا الحديث وغيره من الأدلة المتكاثرة تدل على أنَّ الثواب لا يُشترط أن يكون على قدر النَّصَب والتعب في جميع العبادات بل قد يأجر الله تعالى على قليل الأعمال أكثر مما يأجر على كثيرها، فإن الثواب يترتب على تفاوت الرتب في الشرف، وأن ذكر الله تعالى من أعظم الأعمال شرفا. وقال المناوي في التيسير معقبا على هذا الحديث: (لأن جميع العبادات من الإنفاق ومقاتلة العدو وغيرهما وسائل ووسائط يتقرب بها إلى الله والذكر هو المقصود الأعظم والقلب الذي تدور عليه رحا جميع الأديان) اهـ.
ويتأكد ذلك في قوله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُون}.
{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُون}.
يتبع …../……
التدوينة وعي لعلهم 07: لعلهم يتذكرون01 ظهرت أولاً على الحوار الجزائرية.