حاج بن دوخة

حين تتحدث عن رجل صالح حتما سيخونك الوصف، لكن أن تذكر الرسول الكريم فأنت بالتأكيد أبرز ضحايا العجز وأكبر أنصار القصور، لأنك في حضرة رجل سبق الزمان وأنار المكان وكان ومازال خير سفير للإنسان وأطيب ما نعته كل لسان.

في صباه، عاش الفقد وذاق مرارة حرمان الوالدين، لكن اليتم مدرسة محمدية صقلت فيه قيم مشروع القائد العظيم فيما بعد، ويشهد التاريخ أن الفتى صنع تميزا غريبا في مقابل كل الأقران، فلم يدنو مرة واحدة من سوء، ولم يؤذ في حياته أحدا، ولم يول أدنى قدرا لحسابات الدنيا وإغراءاتها، مر على الأرض طاهرا نقيا، حسم في ظرف قياسي كل منافسة في العفة والبراءة، وهو رقم محمدي حصري لو شمله كتاب غينيس، لسقطت باقي الأرقام أرضا تندب حظها خجلا وإحراجا.

نهل من غبن الدنيا، صناعة الهمة وثقل المسؤولية، وأخذ من ديجورها نور المسالك وضياء الدروب في تحدي فريد لا يكرره الحظ ولا يعيده الزمن، تحدي الهداية وتغيير بوصلة أحوال الناس، فكسب القلوب وأذهل العقول، أحبه القريب وعشقه الغريب، جنح إليه الولي الحميم وذكره بخير وجلل كل عدو غريم، وجه أضاء بقاع الدنيا شرقا وغربا، وقلب حنٓ شفقة وإكراما على سكانها، وصَدرٰ احتضن الجميع فلم يقص إنسيا.

اشتد عوده واشتدت سواعده في كسر شرور الأرض، بتكليف رباني ودستور قرآني وحماية السماء، ورغم الحظوة، ظل محمد سليل التواضع وحفيد البساطة، – فما أروعها صورة لم تألفها رحلات التاريخ، أن تجد رجلا تخاطبه ملائكة الرحمن وهو أبسط إنسان، في كنف القدير في محشر المساكين يسير -، نزعة جليلة عرفتها معاجم البشرية ولا نظن أنها تتكرر، محمد ابن عبد الله مولد استثنائي وشخصية فاقت العادة وسلوك قهر المالوف وصلاحية تسري في كل الأزمنة ولا تهزها الظروف، غزارة غيث مباركة تحملها السحاب إلى يوم الدين.

كان بارعا في فن التجارة، أمينا وصادقا، خبيرا في سر الحياة، أستاذه من طراز آخر ومادته المعرفية صافية لا شائبة آدمية فيها، متميزا في الجوار، فكاد أن يضيف الجار إلى أصحاب الفروض وأهل التركة، رحيما بالفقير، فصاحَبه وأسداه دعما روحيا وأقر له حقوقا دون حرج السؤال، عطوفا بالنساء، جسد روح الإنصاف والعدل بين زوجاته، نظر إليهن نظرة وقار وعرفان وحصانة، حاميا لرابطة الدم، كان مثالا في القرابة وظلا لصيقا على أهله، هذا غيض من فيض سلوكي جاء الرسول دفعة واحدة، هو قلعة توقفت عندها مكارم الأخلاق وأبت الرحيل.

أغدق على البشرية قيما، لكنه جاد عليها بنموذج دولة الصلاح والفلاح والنجاح في الدارين.

دولة رسول الله، أول تنظيم سياسي يبنى بالأخلاق ويرسو بالفضيلة، أفرزت ممارسته حقوقا ومراكز لم تمنح لمخلوق من قبل، حق المواطن، حق الأجنبي، حق المسلم، حق غير المسلم، حق المرأة، حق السجين، والكل مبهوت من وصية الرسول بحرمة ورفعة عزيز القوم، وصية زادت نبراس الأرض نورانية، والجميع تحت رحمة الدهشة من وصيته للحيوان وإقراره بآداب للذبح والنحر، وغيرها من بشائر عززت القناعة ان هذا الرسول شخصية تقاسمت مع البشر الجانب العضوي فقط وفاقته بسنوات ضوئية في الجوانب الأخرى.

له سبق محاربة الإقصاء بكل أنواعه، حارب العنصرية، فالكل عنده سواء ومعيار التفرقة الوحيد هو التقوى، – حتى التفرقة عنده أخضعها إلى اللطف واللباقة -، عاد جاره اليهودي، جعل رجلا أسود مؤذنا له وصاحبا مقربا، تعامل تجاريا مع غير المسلمين، فملأ قلوبهم قبسا ووهجا، ترك الناس يلجون عقيدته أفواجا أفواجا، آخى بين قبيلتين، المهاجرين والأنصار، فحل العناق وهجر الغدر والنفاق.

القيم التي يتغنى بها اليوم فصيل من الغرب، هي في أصالتها قيم محمدية حصرية، لقنه إياها أستاذ يعلو كل البشر، جاءته مفصلة في قرآن لغته عربية، لكنه مفهوم بكل لغات العالم، وشواهد الماضي والحاضر ومنطق العلوم أثبتوا أن القرآن غير محدد الصلاحية وغير منتهي السريان، ينتعش يوما بعد يوم، وأن مشاكل الإنسان مهما بلغت قسوتها، علاجها وترياقها موجود ومتوفر في سنن هذا النبي الكريم.

النبي العربي، بُعِثَ للناس أجمعين، وتعاليمه ليست فقط  حلول دنيوية هي كذلك دستور نجاة، لقتامة النفس وشرورها، ورفعا للإحراج حين لقاء الله في اليوم الموعود.

ميزة هذا الرسول، أن حباه ربه بقلب يتسع للجميع، وبلسان لم ينطق إلا نفعا وحقا وشفاء ولطفا ونصرا ورحمة، وبرسالة خاطبت الجميع وتركت لديهم انطباعا أن الوسطية والاعتدال وقبول الآخر والرشادة هي توابل محمدية خالصة.

وفي آية جليلة من القرآن الكريم، ورد فضل هذا النبي، فقد بعثه الله آخر الأنبياء لكنه ذكره قبلهم: “وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۖ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا”

اللهم صل وسلم على نبينا الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين.

التدوينة طاهر الخلق وناصر الحق ظهرت أولاً على الحوار الجزائرية.