د.فاروق طيفور،

في مشهد تاريخي لسيدنا موسى عليه السلام أمام بحرٍ كبير يقفُ ومعه المؤمنين به، ينظر إليهم، إذ بالخوف قد تملّكهم، يقولون مضطربين ماذا أنت فاعل ياموسى “إِنَّا لَمُدْرَكُونَ” لكنه ثابتٌ، ليس مثلهم، يستمد تلك القوة من ذلك الإيمان واليقين الكامن داخله، يُطمْئنهم ويقول “كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ”، على الجانب الآخر -حيث الواقفين معه-، كيف يؤمن موسى بكلمات ونحن بين خطرين، خطر البحر الواسع من أمامنا، ومن خلفنا جند فرعون على وشك اللحاق بنا ليقتلونا! بل كيف لنا أن نثق فيما يقول ونحن أمام خيارين لطريقة موتنا – بتقديرنا البشري- إما أن نموت قتلًا، أو نموت غرقًا في محاولة الهروب من الموت قتلًا!.. لكن كل تلك التساؤلات لم تكن حاضرة ولا ضاغطة على سيدنا موسى لأن ما قاله كان موقنًا به مصدقًا له، وكأنه كان ينظر إلى آية الله في نفسه، إلى اليقين التام داخله ليقول هذا، ويكون حقيقيًا، ويهديه الله ومن معه إلى النجاة، وبر الأمان من قلب ذلك البحر الواسع الذي كانوا يرونه خطرًا!
وهو نفس الأمر يتكرر مع سيدنا محمد صل الله عليه وسلم في غزوة الخندق عندما اعترضت الصحابة الكرام صخرة كبيرة وهم يحفرون الخندق، فجاء النبي وضربها ضربة ثم بشرهم بفتح فارس والروم وهما الإمبراطوريتان العظيمتان، فقال أحد ضعاف الإيمان من الذين وصفهم القرآن بأنهم زلزلوا لايستطيع أحدنا أن يقضي حاجته من كثرة حصار الكفار الذين تجمعت كل أحزابهم وهو يبشرنا بفتح بلاد فارس والروم.
نمط التفكير والثقة هنا مختلفين لأن درجات الهداية واليقين في الله مختلفين أيضا، حيث حفل القرآن بنماذج الهداية واليقين في قصص الأنبياء وضرب الأمثال.
والواقع كما قال أحد المختصين أن استقراء النصوص القرآنية يكشف أن هذه الهداية وما يقابلها من الإضلال ليستا في الإنسان ابتداء في خلقه، بل هما نتائج لمقدمات، ومسببات لأسباب، فكما جعل الله تعالى الطعام سبباً في الغذاء والماء سبباً للري، والسكين ينتج عنه القطع والنار تسبب الحريق، فكذلك جعل أسباباً توصل إلى الهداية وأسباباً تقود إلى الضلال. فالهداية إنما هي ثمار العمل الصالح، والضلال إنما هو نتاج عمل قبيح وإسناد الهداية لله من حيث إنه وضع نظام الأسباب والمسببات لا أنه أجبر الإنسان على الضلال والهداية وهذا المعنى واضح جداً في الآيات القرآنية مثل: قوله تعالى: “وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ” (الرعد: 27). وقوله تعالى: “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ” (العنكبوت: 69). وقوله تعالى: “وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ” (محمد: 17). فهداية الله للناس بمعنى لطفه بهم وتوفيقهم للعمل الصالح إنّما هي ثمرة جهاد للنفس، وإنابة إلى الله واستمساك بإرشاده ووحيه.
والهداية نوعان :هداية إرشاد ودلالة يملكها العباد، وهي التي أثبتها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم (الشورى: من الآية52)، وهداية توفيق لا يملكها إلا الله، وهي التي نفاها عن نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله: إنك لا تهدي من أحببت (القصص: من الآية 56).
فالبشر هيأهم الله، وجعل فيهم القابلية للهدى كما قال تعالى: وهديناه النجدين (البلد:10) وقال: إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا (الإنسان:3).
فمن تسبب من البشر في كسب الهداية، وجاهد نفسه في حصولها رزقه الله هداية التوفيق كما قال تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا (العنكبوت: من الآية 69).
وقد فحص جيدا الشهيد سيد قطب هذا المعنى ووصف العلاقة بين جهاد النفس والهداية بأنها قاعدة قرآنية محكمة، فهي معادلة إذن لا تتحقق إلا بطرفين.
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} دلت على شيءٍ آخر، كما يقول ابن القيم: “وهو أن أكمل الناس هدايةً أعظمهم جهاداً”.
كما جاء في تفاسير أخرى أن معنى الآية الكريمة: هم المؤمنون الذين جاهدوا أعداء الله، والنفس، والشيطان، وصبروا على الفتن والأذى في سبيل الله، سيهديهم الله سبل الخير، ويثبتهم على الصراط المستقيم، ومَن هذه صفته فهو محسن إلى نفسه وإلى غيره. وإن الله سبحانه وتعالى لمع مَن أحسن مِن خَلْقِه بالنصرة والتأييد والحفظ والهداية.
كما دل على أن أحرى الناس بموافقة الصواب أهل الجهاد بكل أنواعه، وعلى أن من أحسن فيما أمر به أعانه اللّه ويسر له أسباب الهداية.
…/…. يتبع

التدوينة وعي لعلهم (09) .. لعلهم يهتدون (01) ظهرت أولاً على الحوار الجزائرية.