د.فاروق طيفور،
الفقه والفهم – في اللغة – اسمان بمعنى واحد، وقد كانت الشريعة تُطلَق على الدين كله الذي تَحَولت المعارف المرتبطة به إلى صنائع وعلوم، فصار الفقه – في اصطلاح أهله – هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، كما قال الدكتور معتز الخطيب، وقد نشأت مذاهب فقهية عدة لكل مذهب مناهجُه وأئمته ونصوصه، يجمعها نظامٌ عام في الاستدلال والتفكير والعمل صار فيما بعد يُسمى تقليدًا؛ لأنه مع تَشَكل المذاهب وقواعدها انقسم الناس إلى قسمين: مجتهد ومقلّد.
والفقه؛ بما هو علمٌ بالأحكام الشرعية، يضيف الدكتور الخطيب: اسمٌ جامعٌ لطريقي الدنيا والآخرة، و“معرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب” كما يقول الإمام الغزالي (505هـ) وهو المعنى الذي نجده عند الحارث المحاسبي (243هـ)، وذلك لتحقيق الاستقامة في الدنيا لتحصيل الفلاح في الآخرة.
يقال: فقه الرجل بفتح القاف إذا فهم، وفقِه بكسر القاف إذا سبق غيره فى الفهم، وفقُه بالضم إذا صار الفقه له لازمة وملكة وسجية.
ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَيُعْطِى اللَّهُ، وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، أَوْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ» (صحيح البخارى) أى ويعطى الله (عز وجل) العلم والفقه والفهم، وقد قالوا: من عمل بما علم ورثه الله (عز وجل) علم مالم يكن يعلم، حيث يقول الحق سبحانه فى شأن الخضر (عليه السلام) : «مِن لَّدُنَّا عِلْمًا » (الكهف :65)، ويقول سبحانه: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ» (الأنبياء : 80)، حيث عبر الحق سبحانه وتعالى بلفظ «ففهمناها» ولم يقل علمناها، لأن العلم شىء والفهم شىء آخر.
والفرق بين يفقهون ويعلمون هو أن الفقه في اللغة معناه الفهم الدقيق فلا يطلق الفقه إلا على أمر ذي معنى دقيق، فلا تقول يفقه السماء والأرض ولكن يفقه علة كذا ونحوه، قال السيوطي في قوله تعالى: انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون {الأنعام:65}، قال: تنبيه على التكرير الواقع في القرآن واختلاف الآيات والحجج وضروب الأمثال لأن في ذلك ما يقتضي الفهم لا محالة.
وأما العلم فهو إدراك الشيء على ما هو عليه، فإذا كان الشيء دقيقا سمي فقها، إذا فالفقه علم وزيادة، فيختم الكلام بيفقهون إذا تضمن معنى دقيقا يحتاج إلى فهم ويختم بيعلمون إذا كان يحتاج إلى إدراك فقط. والفقه بهذا المعنى المنشود أخص من العلم، لأن معناه لغة: الفهم والتفطن وحسن الإدراك، ومقتضى هذا ألا يقف عند الظواهر، وإنما يغوص إلى المقاصد، وألا تشغله الألفاظ عما وراءها من معان، وألا تغرقه الجزئيات فينسى الكليات.
والقرآن طلب منا النفير للتفقه في الدين لا لمجرد التعلم، فقال تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين). وأول مراتب هذا الفقه: أن ينتقل من الرواية إلى الدراية، من الحفظ إلى الفهم، فيفهم عن الله ورسوله مرادهما، ويسأل أهل العلم ويحاورهم حتى يفهم ويفقه. وقد قال سلفنا: ليس العلم بكثرة الرواية، إنما هو نور يقذفه الله في القلب. وفي الحديث الشريف: “رب حامل فقه ليس بفقيه“.
وقد صور لنا القرآن الكريم الذي يحمل العلم ولا يفقهه ولا يفهم أسراره، بالحمار الذي يحمل نفائس الأسفار (أي الكتب) ولا يدري عما تحتويه شيئا، وهذا ما وصف به القرآن اليهود في عصر النبوة حين قال: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا). ولم ترد كلمة (الفهم) في القرآن الا مرّة واحدة وذلك في قوله تعالى : {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء : 79] الفهم اساسا هو (العلم بمعاني الكلام عند سماعه خاصّة). اما الفقه فقد ورد استعماله في القرآن اكثر من (15) مرّة على صيغة فعل.
وقد روي عن أبي هريرة، أنه مر بسوق المدينة، فوقف عليها، فقال: «يا أهل السوق، ما أعجزكم» قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: «ذاك ميراث رسول الله ﷺ يقسم، وأنتم هاهنا لا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه» قالوا: وأين هو؟ قال: «في المسجد» فخرجوا سراعا إلى المسجد، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: «ما لكم؟» قالوا: يا أبا هريرة فقد أتينا المسجد، فدخلنا، فلم نر فيه شيئا يقسم. فقال لهم أبو هريرة: «أما رأيتم في المسجد أحدا؟» قالوا: بلى، رأينا قوما يصلون، وقوما يقرءون القرآن، وقوما يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: «ويحكم، فذاك ميراث محمد ﷺ».
يتبع …/…
.
التدوينة وعي لعلهم (12):.. لعلهم يفقهون (01) ظهرت أولاً على الحوار الجزائرية.