لا يمكن لأي دولة أن تتقدم، وتتطور دون البحث عن الموهوبين، والـمبدعين من أبنائها والدفع بهم إلى مواقع البحث العلمي، والمسؤولية، والتخطيط وغيره، وعملية الوصول إلى هؤلاء تحتاج إلى معايير صارمة، ولجان تتمتع بشفافية تامة، والوطن العربي يعاني من إشكالية تمكين أمثال هؤلاء، والنتيجة تكون في غالب الأحيان ليست في صالح المواطن العربي، فأي مسؤول يجلس على كرسي المسؤولية ولا يكون مبدعا، أو مبتكرا، أو لديه عقلية ناقدة، وإجرائية، فإنه سيشكل وبالا على الـمكان الذي فيه، وسيشغل وقته في ابتكار كوابح للتقدم، والتطور، ولقصقصة أجنحة الـمبدعين، والـمتفوقين، وإفراغ المؤسسة التي يرأسها من أمثال هؤلاء لأنهم يشكلون خطرا عليهم، ويخفون عيوبه.
لم يصل الغرب في تطوره إلا من خلال البحث عن الـمبدعين، والمتميزين، والمتفوقين ووضعهم في مواقعم الـمناسبة وتمكينهم، وهؤلاء قد لا يتجاوزون الثلاثة بالمائة من الناس، وتم ابتكار معادلة تقول إن أي مجتمع يستثمر كل مبدع في مكانه الـمناسب ينعكس ذلك على تطوره، وتقدمه في الـمجالات كلها، والعكس يؤدي إلى نتائج كارثية، أو عفن فكري، أو جمود، وعدم نمو حقيقي في مختلف الـمجالات.
للولايات المتحدة الأميركية تجربة ثرية في هذا الجانب، ولم تقتصر على البحث عن الـمبدعين، وتمكينهم من سكانها، بل وجذب أكثر الطامحين في مختلف أنحاء العالم، وجعلهم جزءا من ماكنة تطورها، مما أدى إلى تفوقها في الـمجالات كلها، وخاصة في مجال الابتكار، والاختراع، فأصبحت البيئة الجاذبة لكل من لديه فكرة قابلة للتنفيذ، ويمكن أن تضيف لبنة في بناء تقدمهم.
من يزور أي مركز أبحاث في أميركا يمكن أن يعرف أن هناك تنوعا في الأصول والمنابت بين الموجودين، ورغم ما فيه هذه الدولة من تمييز من قبل الناس، تجاه فئات معينة، ولكن هذا التمييز يختفي عادة مع الـمبدعين، لأنهم تعلموا، وأدركوا أن أي متميز يتم تمكينه في مكانه الصحيح يعني مزيدا من الثراء للبلد كلها، وقوة أكبر، وابتكاء أعمق.
ولنعطي مثالا على هذه السياسة الأميركية التي أثبتت نجاحها الكبير، لنعد إلى عام 2016 حيث حصدت الولايات المتحدة سبع جوائز نوبل من أصل 11 فائزا من العالم كله، ومن الغريب أن سبعة من 11 من هؤلاء هم من المهاجرين، وهذا الأمر لم يأت صدفة بل هو وليد بيئة بنيت بعناية من قبل أذكياء، ومجموعة من العوامل التي جعلتهم «أفضل مكان صديق للإبداع في العالم»، وذلك كله مقرون بمجموعة تشريعات، وخطط، وبناء حساسية إيجابية حكومية وشعبية اتجاه الإبداع.
وبحسب الجزيرة نت « لقد ركزت الولايات المتحدة الأميركية لتطوير نظامها التعليمي على الموهوبين والمتفوقين باعتبارهم أهم الثمار التي يجب الاعتناء بها وقطفها في أبهى حللها، وفي إطار سعيها لذلك أقرت إستراتيجية ترمي إلى كشف المواهب وصقلها، وقامت هذه الاستراتيجة على ركيزتين أساسيتين: أولهما كشف وتنمية المواهب الداخلية من خلال إيجاد المؤسسات والبرامج التعليمية القوية المسايرة للواقع العلمي والمستشرفة لمستقبله. وثانيهما استقطاب المواهب من الخارج، بتشجيع هجرة الكفاءات من مختلف الجنسيات وتوفير كل التحفيزات التي تساعد على استقرارهم في أمريكا استقرارا نهائيا».
وهذا يدعونا إلى من باب محبتنا لبلدنا الأردن أن ندعو إلى وضع استراتيجية بخطوات إجرائية قابلة للتطبيق هدفها بناء بيئة صديقة للإبداع، والتطور، ودراسة ما الكوابح التي تقف في طريق الإبداع لكبحها وتقليل آثارها السلبية، ثم ليصار إلى البحث عن المدعين، والـمتفوقين، والمخترعين، والمبتكرين، وتحديدهم، لتمكينهم ووضعهم في مواقع متقدمة في الـمجتمع، استنادا إلى معايير إبداعية