تتوالى الأحداث في الباكستان، من استهداف منشأة أمنية، مرورا بهجوم مسلح على حافلات ركّاب، إلى رفض المهندسة المعمارية الباكستانية ياسمين لاري جائزة سنوية يمنحها كيان الاحتلال في تخصصات شتى.
وسط هذا كله، تتوارى الباكستان، ذات التاريخ المفرط في طيبه مع العالم العربي وقضاياه، من نشرات الأخبار العربية، كما لو أنها غير موجودة على الخريطة. بل إن أراد المتابع معرفة جديدها، فإنه مضطر لقنوات إخبارية عالمية وليس عربية.
في الحديث عن الباكستان شجن خاص لديّ. أعود بذاكرتي إلى تلك الليلة في إشبيلية، حين استأذنني الرجل المهذب وزوجته في الجلوس معي حول الطاولة نفسها، التي أستأثر بها، في المقهى العربي المزدحم؛ ليتمكّنا من مشاهدة مباراة المغرب مع فرنسا ضمن مباريات كأس العالم في دورته الأخيرة. استبشرت بهما وبلطفهما المتناهي، لا سيما حين عرفت أنهما من الباكستان. تميل عليّ الزوجة، خلال المباراة، لتسألني بخجل عن معنى كلمة «زيّاش» التي لا ينفكّ المعلق الرياضي يرددها، أجيبها ضاحكة أنها اسم عائلة اللاعب المغربي الواعد حكيم زيّاش. في الفاصل بين الشوطين، تحدث كل منا عن بلاده، وكم كان احتفاء الزوجين بي كبيراً حين عرفا أني من فلسطين.
لم يكن هذا الاحتفاء جديداً عليّ؛ إذ اقترابي من الجالية الباكستانية في برشلونة، على مدار ثلاثة أعوام، خلال دراسة الدكتوراة، كان من أجمل مخرجات الرحلة وأثراها ثقافياً. لم أكن قبل ذلك قد تعاملت مع أصدقائنا الباكستانيين عن قرب، إلا في فترة كنت أذهب فيها لمنطقة الأغوار الأردنية؛ لإعداد تحقيقات صحفية عن الجالية الباكستانية التي تعمل هناك في الزراعة والتي تسكن الخيام ولا تحمل أوراقاً ثبوتية في معظم المرات.
في كتالونيا عموماً، وبرشلونة على وجه خاص، اقتربت من الرفاق الباكستانيين ووجدتهم من أكثر المتحمسين والداعمين للقضية الفلسطينية. يتصرف كثر منهم كما لو كانوا سفراء لفلسطين والعالم الإسلامي، بل العربي تحديداً، في الغرب. ولشدة ما يتفانون في خلق صورة إيجابية، فإنهم يحظون بثقة الأهالي هناك، ويشكّلون جالية كبيرة يتركّز معظمها في المنطقة الموازية لشارع الرامبلا. عند زيارتك تلك الأزقة تشعر كما لو كنت تمشي في حي شعبي في أحد بلدان العالم الثالث: اللافتات المكتوب جزء كبير منها باللغة العربية، وكلمة «حلال» التي تتصدر تلك اللافتات للإشارة إلى اللحوم المقدمة على الطريقة الإسلامية، وصالونات الحلاقة بصورتها الشعبية القديمة، واستديوهات التصوير ذات الطابع القديم جداً، ومحال الخضار والبقالة الزاهدة في معروضاتها. يتجوّل الباكستانيون في تلك الطرقات بملابسهم التقليدية غالباً، ويبشّون في وجه الضيف العربي على نحو خاص ويعرفونه وإن لم ينطق بكلمة. «الدم يحنّ» تماماً حين يراك الباكستاني في برشلونة وينظر في وجهك، وحين يعرف أنك فلسطيني فقد نلت الحسنيين من وجهة نظره: عربي وفلسطيني معاً!
ذات عيد، كنت في غربة شديدة في برشلونة، أنا المعتادة على الأجواء العائلية الدافئة طوال أيام الأعياد لم أجد حولي أحدا. فيما أمشي على غير هدى، لمحت يومها نساءً ورجالاً باكستانيين يمشون مجموعات بلباسهم التقليديّ. خمّنت أنهم بصدد الاحتفال بالعيد. مشيت وراءهم ودخلت المطعم الباكستاني الذي يوظفونه كصالة أفراح كذلك، فكانت تكبيرات العيد عبر الشاشة الكبيرة، والأجواء الاحتفالية، والأطباق التي تُقدّم بلحم الأضاحي، والتهاني المتبادلة، والكثير من حلوى العيد وأجوائه. كنت يومها العربية الوحيدة، وقد حظيت باهتمام بالغ من الرفاق الباكستانيين ومحبة لن أنساها.
وفي أول تجربة الانتقال إلى برشلونة، كنت أقصد متجراً إلى جانب بيتي.