كتب علي سعادة - الصورة بألف كلمة، لكنها حين تلامس شغاف البطولة والشجاعة تصبح بمداد البحر وبمداه وبأفق يحلق في قوس الأبدية.

صورة لم تكن مقصودة بحد ذاتها، كان الهدف من نشرها التفاخر والغطرسة والزهو بالوصل إلى رمز وطني فلسطيني وعربي وإسلامي، لكنها كانت تكريما لرمزية البطل الذي ظهر بكامل عتاده ببزة عسكرية حاملا بندقيته، ويدافع عن شعبه ووطنه.

الصورة طغت على عملية القتل بحد ذاتها، لم يكن في الأنفاق بأمان، ولم يكن يعيش حياة مترفة كان مقاتلا شأن جميع رجال المقاومة. تسريبها أفقد الاحتلال صورة "النصر" التي كان يسعى إليه.

وحتى قبل استشهاده كان نمط حياته بسيطا جدا وأقل من عادي، يمارس دوره القيادي بهدوء وسرية بعيدا عن التغطية الإعلامية ودون رفاهية. وكان يوصف بالزهد، منضبط للغاية، نشأ في ظروف صعبة وقاسية.

قائد ذكي وليس سهلا، تربى على يد الشيخ أحمد ياسين، يعرف ماذا يريد ويسعى بكل قوة لتحقيق أهداف المقاوم، كان يسعى للشهادة وقد نالها.

وصفه المسؤول في جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (شين بيت) يارون بلوم بأنه: "شخصية كاريزمية، ليس فاسدا، ومتواضعاً".

تعود أصول يحيى السنوار، المولود عام 1962 في مخيم خان يونس، إلى مدينة عسقلان المحتلة عام 1948، التي سقطت في يد الاحتلال في عام 1948، وأصبح اسمها "أشكلون".

أنهى دراسته الجامعية في "الجامعة الإسلامية" بغزة بدرجة البكالوريوس في اللغة العربية، وكان رئيسا لمجلس الطلاب في الجامعة.

اعتقل أول مرة عام 1982، وبقي رهن الاعتقال الإداري 4 أشهر. وفي 1985 اعتقل مجددا 8 أشهر بعد اتهامه بإنشاء جهاز الأمن الخاص بحركة لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، الذي عرف باسم "مجد" وتولى الملفات الأمنية الداخلية. وتمكن السنوار حينها من قيادة مجموعة من الكوادر الأمنية وتتبع عدد من العملاء الذين عملوا لصالح الاحتلال. وصار دورها بجانب إجراء التحقيقات مع عملاء الاحتلال، اقتفاء آثار ضباط المخابرات وأجهزة الأمن الإسرائيلية نفسها.

وفي عام 1988، اعتقل مجددا وصدر عليه حكم بالسجن 4 مؤبدات.

وبعد أن قضى نحو 23 عاما داخل السجون الإسرائيلية أفرج عن السنوار في عام 2011 خلال صفقة "وفاء الأحرار"، حيث أُطْلِق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، وبعد الإفراج عنه أصبح السنوار من أبرز قيادات الحركة في غزة، وبات أحد أعضاء مكتبها السياسي.

ويعد من القيادات الأولى التي أسست "كتائب عز الدين القسام" الجناح العسكري لحركة حماس.

أدرجته واشنطن في عام 2015 على اللائحة "الإرهابيين الدوليين" مع قائد كتائب القسام، محمد الضيف، والأسير المحرر روحي مشتهى.

"أبو إبراهيم"، كما يكنى، الذي تعلم اللغة العبرية في السجون الإسرائيلية، كان يمضي ساعات في التحدث مع الإسرائيليين في أثناء السجن، وتعلم ثقافتهم، و"كان مدمنا على القنوات الإسرائيلية" يتابعها دون توقف، كما ذكرت وسائل إعلام إسرائيلي، فهم تماما العقلية الإسرائيلية.

انتخابه رئيسا للمكتب السياسي لـ"حماس" في قطاع غزة، عام 2017، ثم انتخبه في آب/أغسطس الماضي لخلافة الشهيد إسماعيل هنية، رئيسا للمكتب السياسي للحركة، جعل الإسرائيليين يعيدون حساباتهم الأمنية والعسكرية مجددا.

دولة الاحتلال تعتبر السنوار "عدوا خطيرا" فهي تصفه بـ"العنيد" و "رئيس جناح الصقور" في "حماس"، كما ترى فيه حكومة الاحتلال نسخة "متطرفة" بالمقارنة مع قيادات أخرى. وقد نشر معهد السياسات والإستراتيجية الإسرائيلية التابع لمركز "هرتسيليا" تقريرا حول شخصية السنوار اعتبر فيه أن السنوار "يغير قواعد اللعبة مع إسرائيل".

ويعده الاحتلال "وزير دفاع حماس" لأنه حلقة الوصل بين جناحي الحركة السياسي والعسكري.

وصف المتحدث السابق باسم الجيش الإسرائيلي ريتشارد هيشت، السنوار بأنه "ميت يمشي على الأرض" في إشارة إلى أن الاحتلال يطارده ويتتبعه لقتله.

السنوار، إلى جانب محمد الضيف (أبو خالد)، كان مهندس عملية "طوفان الأقصى"، التي نفذتها فصائل فلسطينية بغزة، بينها "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، ضد مستوطنات وقواعد عسكرية إسرائيلية محاذية للقطاع في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، ما تسبب في خسائر بشرية وعسكرية كبيرة لتل أبيب، وأثر سلبا على سمعة أجهزتها الأمنية والاستخباراتية على المستوى الدولي.
 
وأعلنت تل أبيب أن القضاء عليه يعد أحد أبرز أهداف حرب الإبادة الجماعية الحالية على غزة.

فيما كشفت وسائل إعلام عبرية بأن جهاز الاستخبارات الداخلية (شاباك) شكل وحدة خاصة لاغتياله.

وسابقا، نجا السنوار، من عدة محاولات إسرائيلية لاغتياله، منها محاولة في عام 2003 عن طريق زرع جسم ملغم في جدار منزله بمدينة خان يونس جنوبي غزة، وأخرى في عام 2021 خلال الحرب الإسرائيلية الرابعة على غزة.

وخلال الأشهر الماضية، قال الجيش الإسرائيلي، مرات عدة، أنه يقترب منه، لكن المطلوب الأول للاحتلال نجا في كل مرة.

لكن السنوار لا يبدو متلهفا على الدنيا، فهو كمجاهد يفترض أن عمره انتهى بانتظار لحظة إعلان النصر أو الشهادة أو كلاهما معا.

الصورة التي نشرت لجثمان السنوار يظهر فيها ارتداؤه "جعبة" عسكرية مخصصة لحمل مخازن الرصاص وعتاد عسكري، وقنابل يدوية إلى جانبه قطعة سلاح آلية، تؤشر إلى أنه اشتبك معهم.

جنود جيش الاحتلال الذي وصلوا إلى جثة السنوار هم من سربوا الخبر والصور، وقد يعاقب هؤلاء الجـــنود باعتبار أنهم سربوا حدثا سريا وأمنيا، ما أضر بمخطط الحكومة الإســـرائيلية التي أرادت أن تختلق الحدث، وتظهر قتل الســـنوار وهو مختبئ في الأنفاق بدون عتاد عسكري، وليس وهو يقاتل في الجبهة. وربما إضافة بعض التفاصيل لتشويه صورة الرجل، وإعطاء الجيش هالة إعلامية لا يستحقها.

لكن الاحتلال بدأ يندم على نشر الصورة فالرجل استشهد وهو يقاتل في الجبهة الأمامية في "تل السلطان" برفح حيث لا مدنيين منذ 6 أشهر، ولم يكن يختبئ وراءهم كما يزعم الاحتلال وأبواقه الإعلامية في الغرب، وفي بعض المحطات العربية، كان يتنقل وسط الاشتباكات ضارية بشكل شبه يومي.

الصورة تقول إن الاستخبارات الإسرائيلية فشلت مجددا في تحديد مكان تواجده، وكان وُجود الجنود محض صدفة.

يحيى السنوار لم يكن قائدا سياسيا وعسكريا في المقاومة فقط، فهو كاتب ومترجم وله الكثير من المؤلفات والترجمات في المجالات السياسية والأمنية، من بين أبرز مؤلفاته:
 
ترجمة كتاب "الشاباك بين الأشلاء"، وترجمة كتاب "الأحزاب الإسرائيلية عام 1992"، و"حماس: التجربة والخطأ"، وهو كتاب يتناول تجربة "حماس" وتطورها على مر الزمن.
 
وبالإضافة إلى كتاب "المجد"، كما له رواية أدبية بعنوان "شوك القرنفل"، التي تحكي قصة النضال الفلسطيني منذ عام 1967 حتى انتفاضة الأقصى.

تتسم مؤلفات السنوار بأسلوبه السياسي والتحليلي، وتعكس رؤيته وتجربته في الشؤون السياسية والأمنية.

من جانبه قال مكتب الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية، الذي طلب إصدار مذكرة اعتقال بحق يحيى السنوار، لدوره في هجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر، إنه "على علم بالتقارير" عن وفاته.

كل ذلك لا قيمة له، غبار على حذاء الشهيد، فصورته وهو يقاتل كانت نعمة من الله وتكريم إلهي، حتى يبقى في الذاكرة كرمز للبطولة والشجاعة.

ارتقى وهو يقاتل في ساحة المعركة بتل السلطان في برفح، مقبلاً يواجه أعداءه مباشرة، وليس مدبراً مديرا ظهره لخصومه وساقيه للريح.

وستبقى صورته بعد استشهاده خالدة في عقول الفلسطينيين والعرب وأحرار العالم بوصفه رجلا شجاعا قاد نضال شعبه، وارتقى وهو يقاتل مع رفاق السلاح.



(قدس برس)
.