كتب زياد ابحيص -
يهمل نموذج التوقع الانتخابي الأبرز والمعروف باسم صاحبه آلان ليكمان قيمة الحملة الانتخابية، وما يجري فيها من مناظرات، ومن استطلاعات رأي مبكرة ومتأخرة، ويقلل من قيمة الولايات المتأرجحة، وغالباً ما يلجأ لتوقع نتيجة الانتخابات قبل حصولها بعدة أشهر، ولكنه رغم ذلك استطاع توقع نتيجة تسع من آخر عشر جولات انتخابية رئاسية، وهو ما يعني أن صناعةً إعلامية بمئات ملايين الدولارات، وأخرى مشابهة في مجال استطلاعات الرأي تمسي فائضة عن الحاجة في وجود نموذج من 13 مؤشراً تجاب بنعم أو لا قادر على التوقع بمثل هذه الدقة، وهو ما يؤسس بالضرورة لصراع مصالح تدافع فيه هذه الصناعات الكبيرة عن جدواها وأهميتها، علاوة على النقاش الموضوعي لأي نموذج باعتباره عملاً بشرياً يحتمل الخطأ ويحتمل أن تغيب عنه مجموعة من الاعتبارات.
بدءاً من انتخابات 2020، أخذت مجلة الإيكونوميست البريطانية بتطوير نموذجها الخاص للتنبؤ والذي توقع فوز جو بايدن بـ356 صوتاً من أصوات المجمع الانتخابي بمقابل 182 لدونالد ترامب، وقد فاز جو بايدن بالفعل لكن بـ 306 من أصوات المجمع الانتخابي بمقابل 232 لترامب، ما يجعل هامش الخطأ في التوقع يساوي 50 من أصوات المجمع الانتخابي من أصل 538، وبواقع 9% وهو هامش خطأ كبير.
في هذا العام تعود الإيكونوميست في محاولة جديدة للتنبؤ وتحسين النموذج، والذي كان يتوقع حتى الساعة الخامسة بتوقيت جرينتش من مساء اليوم السابق للانتخابات أن يفوز دونالد ترامب بالحد الأدنى الذي يسمح له أن يكون رئيساً بواقع 270 من أصوات المجمع الانتخابي، وأن تخسر كامالا هاريس مرشحة الحزب الديمقراطي الحاكم خسارة قريبة جداً بواقع 268 من أصوات المجمع الانتخابي، ليقلب التوقع بعد ذلك، وينطلق هذا النموذج من المنهجية التالية:
أولاً: من نتائج الاستطلاعات على مستوى الولايات المتحدة بالكامل أو على مستوى الولايات، ويعتمد إدخال نتائج جميع الاستطلاعات اعتماداً على مصدرين أساسيين.
ثانياً: تحسين نتائج استطلاعات الرأي بناء على توقعات النماذج الأكثر ثباتاً والمبنية على مؤشرات تحكم السلوك التصويتي وأبرزها نموذج "وقت التغيير" الذي طوره عالم السياسة آلان أبراموفيتش، والذي يخرج بمعادلة حسابية تعتمد على ثلاثة عناصر هي مستوى الرضى عن الرئيس في منتصف سنة الانتخابات، والنمو في الناتج الإجمالي في سنة الانتخابات، والمدة التي قضاها الحزب الحاكم في السلطة ليخرج بمعامل رقمي يتوقع مدى التغير المحتمل في الأصوات التي سيحصل عليها الحزب الحاكم، وهو نموذج تمكن من توقع 16 من أصل 18 جولة انتخابية جرى تطبيقه عليها، وعجز عن توقع نتيجة انتخابات 2020 بسبب التراجع الاستثنائي في الناتج الإجمالي خلال سنة الانتخابات بسبب وباء كورونا، ما يجعل نسبة نجاحه 84%.
وقد أصدر آلان أبراموفيتش توقعه للانتخابات الحالية في 22-8-2024 متوقعاً فوز كامالا هاريس بالرئاسة بفارق بسيط بواقع بـ 281 صوتاً من المجمع الانتخابي، واصفاً الانتخابات بأنها ستكون "متقاربة" وأن تبدل النتيجة لصالح ترامب "لن يكون مفاجئاً".
ثالثاً: تحسين نتائج استطلاعات الرأي اتجاه التغيير في التصويت في كل ولاية لآخر جولتين انتخابيتين، وبذلك يكون عامل التغيير التاريخي في التصويت أحد عناصر الوصول للنتيجة.
وتختم الإيكونوميست يتطبيق المحاكاة بالكمبيوتر لإنتاج الاحتمالات الممكنة من كل هذه المعطيات والاستفادة منها للوصول إلى السيناريو الأكثر ترجيحاً.
الملاحظ هنا أن نموذج الإيكونوميست يميل إلى تحسين قراءة استطلاعات الرأي معتمداً على نماذج أخرى أكثر استقراراً تتمكن من إصدار توقعاتها قبل الانتخابات بشهرين مثل نموذج أبراموفيتش، أو من خلال اتجاهات تاريخية للتغيير معروفة من قبل أربع سنوات، وهو ما يعزز ما يقوله آلان ليكمان صاحب النموذج الأبرز، بأن القضايا التي تحكم نتيجة الانتخابات تتعلق بسياسات الحكم وتماسك الأحزاب وطبيعة المرشحين ولا وزن فيها للحملات الانتخابية والمناظرات واستطلاعات الرأي، والإيكونوميست تعترف ضمنياً بهذه الحقيقة من خلال المنهجية التي استحدثتها لنموذجها الخاص، فإنفاق مئات الملايين المرافق للانتخابات يميل لأن يكون ضرورة لحاجات السوق وطبيعة الاقتصاد الرأسمالي أكثر مما هو ضرورة حقيقية للانتخابات ولتحديد خيارات الناخبين فيها.
وأمام هذه النماذج والنماذج المضادة، وصراع المصالح الذي تخوضه صناعة الحملات والإعلام والمناظرات واستطلاعات الرأي؛ يبقى سؤال مركزي أمام النظام بأسره: فهل سيتمكن بهذه البنية من تمييز اللحظات المفصلية والفارقة، ومن الاستعداد لمواجهة عناصر التغيير الكامنة التي يمكن أن تعصف به؛ خصوصاً وأن يوم غد قد يشهد محطة جديدة لتحرك هذه العناصر؟
.