ها قد عاد موسم الزيتون وعادت معه آمال المزارعين والضامنين بالخير والبركة والغلّة الوافرة:

طُلّاب ستُدفع أقساطهم المتراكمة..

عُزّاب سيُزوّجون، ومتزوّجون ستتعزّز رغباتهم المضمرة ونيّاتهم المبيّتة بأن "يطرقوها" زيجة ثانية وربما ثالثة..

أقساط ديون ستُقضى للبنوك، وصناديق التمكين والتشغيل وتسليف المرأة، وتجّار السمانة والبقالة، وتجار الأثاث والأجهزة الكهربائيّة، ومحلات مواد البناء والدهانات واللوازم الصحيّة، ومحلات الأدوات والمستلزمات الزراعيّة، والعيادات البيطريّة، وتجّار الأسمدة، وتجّار الأعلاف، ووكلاء الجرّارات والآلات الزراعيّة.. والحكومة التي تتقاضى من هؤلاء جميعاً إتاوات على شكل ضرائب ورسوم وغرامات فلكيّة لم تشملها لوثة تشجيع الاستثمار والتحوّل الاقتصادي والشراكة بين القطاعين العام والخاص!

ها هي أولى المعاصر تُدشّن الموسم الجديد باستقبال أول كميّة من زيتون تم قطافه بأطراف الأصابع ورجاءات الخواطر وارتعاشات القلوب..

وها هي حبات الزيتون تمّر عبر جميع مراحل المعالجة الآلية التي لا تمسّها الأيدي..

وها هم الجميع يترقّبون خروج الخيط الأول من زيت الزيتون المتلألئ ليصبّ في تنكات الصفيح الناصعة..

وهنا حدثت المفاجأة؛ فبدلاً من خروج زيت زيتون أخضر أيّاً كانت درجة خضرته من فوهة ماسورة الستانلس ستيل السابحة في الهواء، خرج خيط رفيع من سائل أحمر قانٍ كالدم!

دُهش الجميع وظنّوا أنّ هناك عطلاً ما قد ألمّ بالمعصرة!

تقدّم فنيّو الصيانة الذين تعلّموا مهنتهم بالتجربة والخطأ و"السَكْوَجَة" و"البَنْدَقَة" ليتفقّدوا كافة أجزاء الماكنة اللزجة الرابضة فوق أرضيّة المعصرة القذرة.

لا توجد هناك مشكلة ظاهرة، كلّ شيء يبدو على ما يرام!

أعاد الفنيّون تشغيل الماكينة وألقموها كمية مختلفة من ثمار زيتون تعود لمزارع آخر قادم من منطقة أخرى.

نفس النتيجة، خيط رفيع من ذات السائل الأحمر يخرج من المعصرة!

تجرّأ أحدهم وتقدّم من الماسورة ومدّ أصبعه ليتذوّق هذا السائل الكثيف.

طعمه طعم دم بالفعل!

تكرّرت هذه الظاهرة في المعاصر الأخرى والمناطق الأخرى بطول البلاد وعرضها!

حتى في البلدان المجاورة كانت النتيجة مشابهة مع بعض التنويعات:

مرّةً تُخرِج المعصرة قطراناً..
ومرّةً صديداً
ومرّةً مياهاً عادمةً!

كانت نوعيّة السائل الناتج ونتانته تتناسبان مع مدى قرب أو بعد ذلك البلد عن فلسطين المحتلّة، ومقدار الدفء والحميميّة التي تتمتع بها علاقة النظام الحاكم في هذا البلد مع الكيان الصهيونيّ والأمريكان و(الناتو)!

في ذلك الموسم، زيتون فلسطين، وتحديداً زيتون غزّة، ذلك الذي لم يُقطَف، وإذا قُطف لم يُعصَر، وإذا عُصَر فبطرق يدويّة بدائيّة.. كان وحده الذي يُعطي زيتاً طاهراً نقيّاً بكراً أخضر يانعاً يكاد يضيء لو لم تمسسه نار.. نور على نور!

.