حين تهبّ العواصف، وتضطرب البحار، لا ينجو إلا من كانت جذوره ضاربةً في الأرض، ووعيه ممتداً في التاريخ، وإرادته عصيةً على الانكسار. فالأوطان لا تُحمى بالشعارات، ولا تُصان بالأماني، وإنما تبقى حصينةً بحكمة أبنائها، وقوة تماسكهم، وصلابة رؤيتهم التي لا تهتزّ أمام المتغيرات، ولا تذوب في تيارات الاستقطاب والتشويش.

إن المتأمل في مسيرة الأمم العظيمة، يدرك أن النهضة لا تبدأ من الخارج، بل من الداخل، من الذات الصلبة التي تعرف من تكون، وإلى أين تتجه. ذلك أن القوة الحقيقية لا تُستجدى، ولا تُعطى على موائد السياسة، بل تُنتزع من عمق الوعي والإيمان بقدسية الوطن، وتُصاغ بإرادةٍ عصيّةٍ على التدجين والتبعية. فلا رفعة لأمةٍ تستورد صمودها، ولا مجد لشعبٍ يستلهم قراراته من غيره، ولا بقاء لوطنٍ جعل بوصلته بيد سواه.

واليوم، يقف الأردن في مفترق طرق، حيث لا مجال للحياد ولا فسحة للتردد. اللحظة تتطلب وعياً متقداً، وإدراكاً أن الحفاظ على هذا الوطن ليس رفاهية، بل واجبٌ مقدس ومسؤوليةٌ تاريخية. فلا نهوض لأمةٍ شُغلت بنقد ذاتها أكثر من بنائها، ولا تقدم لوطنٍ استنزفته المعارك الجانبية وألهته التفاصيل الصغيرة عن قضاياه المصيرية.

القوة ليست في ارتفاع الأصوات، بل في وضوح الرؤية. والتأثير لا يكون بالضجيج، بل ببناء الداخل على أسسٍ متينةٍ لا تتزعزع. فالمواقف تُصنع بعقلٍ راجح، لا بعاطفةٍ منفلتة، والقرارات تُؤخذ بحكمةٍ تستلهم من التاريخ، لا بردود الفعل الآنية التي تستهلك الطاقات في غير موضعها.

ولقد أثبتت تجارب التاريخ أن الدول التي فقدت تماسكها الداخلي، لم يحمِها تحالفٌ خارجي ولا دعمٌ دولي. فالوطن إن لم يكن محصّناً من داخله، لن تنفعه تحالفات السياسة ولا وعود الدبلوماسية. والحكمة تقتضي أن نرسّخ في وعينا أن الحماية الحقيقية للأوطان لا تأتي من الخطابات، بل من وحدة الصفّ، ومن عقلٍ واعٍ يدرك أن المناعة الوطنية ليست جداراً يُبنى بالحجارة، بل قوةً تُبنى بالعقول والقلوب والإرادات.
ومن يريد لوطنه أن يكون قوياً، عليه أن يكون هو قوياً أولاً، في فكره وانتمائه وقراراته. ومن يملك زمام أمره، لا ينتظر أن تُرسم له المسارات، بل يرسمها هو بثبات خطاه، وصلابة مواقفه، ونقاء مقصده.

الأردن ليس بحاجة إلى أصواتٍ تتصارع، بل إلى عقولٍ تتكامل. وليس بحاجة إلى شعاراتٍ جوفاء، بل إلى مشاريع حقيقية تنهض بالوطن وتحصّنه من الداخل. فالتاريخ لا يُصنع بالارتجال، بل يُكتب بالعزيمة، والوطن لا يُبنى بالتمنيات، بل بالإرادة والعمل والوعي العميق بأن الانتماء الحقيقي ليس ادعاءً، بل فعلٌ يسبق القول، وموقفٌ يعلو فوق المصالح الضيقة والانفعالات العارضة.

وختام القول..

عندما تشتدّ العواصف، لن ينقذنا إلا تماسكُنا، ولن يحمي هذا الوطن إلا من حمله في قلبه وعقله وسلوكه. ففي الأزمات، لا ملاذ إلا الوعي، ولا نجاة إلا في عمق الإدراك أن الوطن لا يقوى إلا بأبنائه، ولا يحصّن إلا بعقولٍ ترى أبعد من اللحظة، وقلوبٍ تنبض بحب الأرض، وأيدٍ تبني للمستقبل بدلاً من أن تهدم في الحاضر.

الأردن باقٍ.. لأنه لم يضعف يوماً، ولن يضعف ما دامت جذوره تضرب في عمق التاريخ، وما دام أبناؤه يدركون أن الأوطان العظيمة تُبنى بالصبر، وتُحمى بالحكمة، وتُصان بوحدة الداخل قبل كل شيء.
 

.