كتب د.عبدالحكيم الحسبان -

على العكس من نظام التعليم العالي لفرنسي الذي يراعي منظومة الاستعدادات والميول عند من حصلوا على شهادات الدكتوراة فيعطيهم إمكانية أن يتعينوا بشهاداتهم تحت مسمى وظيفي يقول أنهم باحثون فيجري تعيينهم في المراكز البحثية التابعة للدولة الفرنسية، ولا ينخرطون في التدريس الجامعي مطلقا، أو أن يجري تعيينهم تحت مسمى مدرسون فيكون تعيينهم في الجامعات وليس المراكز البحثية ويكون نشاطهم هو التدريس والعمل في القاعات الصفية ومع الطلبة وبينهم، فإن النظام الجامعي في الأردن يعرف استاذ الجامعة على أنه مدرس وعلى أن مهمته الرئيسة هي التدريس. وأما النشاط البحثي فهو مطلوب من المدرس ولكنه لا يمثل جوهر عمل الاستاذ الجامعي والدليل أن التوقف عن النشاط البحثي بعد الترقية لرتبة الاستاذية لا يوفر سببا لطرد الاستاذ من عمله، في حين أن توقف الاستاذ عن التدريس لايام معدودة تجعله مخلا بالتزاماته وعمله ما يستدعي حتما اتخاذ اجراء عقابي بحقه.

والحال، أن التدريس بات يمثل جوهر فلسفة الجامعة وعملها ومعنى وجودها، وهو ما يتأكد من خلال تصميم مباني الجامعة التي تكثر فيها القاعات الصفية مقارنة بالمختبرات مثلا، كما يتأكد من خلال تركيز ادارة الجامعة وعمداء الكليات ورؤساء الاقسام على وضع البرنامج الدراسي الاكاديمي كل فصل. وتتأكد مركزية التدريس أيضا من خلال مستوى الاصرار على إشغال العبء التدريسي لعضو هيئة التدريس، والاصرار على تسجيله في دورات تهيئة أعضاء هيئة التدريس الجدد...ألخ. وقد كان من مستوى التركيز وربما التقديس لفكرة أن مهمة الاستاذ الجامعي هي التدريس أن صار هناك خلط كبير في أذهان الكثيرين بين المدرسة والجامعة باعتبار أن الاثنتين هدفهما التدريس.

قد يبدو النظام الجامعي الفرنسي أكثر منطقية، ولكني أجزم أن النظام الجامعي الانجلوساكسوني وهو السائد في الاردن لا يقل منطقية عن نظيره الفرنسي. ففي النظام الجامعي الانجلوساكسوني لا يعني التركيز على التدريس إسقاطا لمهمة البحث العلمي والمهام الاخرى التي يمكن للاستاذ الجامعي أن يضطلع بها. بل إن التدريس الجيد سوف يؤدي حتما إلى سلسلة من النتائج الايجابية في العمل الذي يشغله الاكاديمي سواء على الصعيد البحثي أو التشبيكي. وربما يكون عرض التجربة التي عشتها على المستوى الشخصي ضروريا لايضاح منطق الامور.

في نهاية تسعينيات القرن الماضي حصلت على الدكتوراة من إحدى الجامعات الفرنسية وبتقدير مميز جدا. وسبق الحصول على الدكتوراه حصولي على شهادتي ماجستير واحدة من فرنسا والثانية من جامعة اليرموك ولكن كان كل من درسوني خلالها في اليرموك هم أساتذة بريطانيون، وألمان، وأميركيون ما عدا استاذتي الموقرة ساتناي شامي. وبالرغم من كل سنين الدراسة الطويلة هذه، إلا أن سنوات التدريس كانت هي الاهم في تجربتي. والسبب أن سنوات الدراسة وخصوصا في الدكتوراة ومع توسع العلوم وتطورها المذهل تجعل الدارس متخصصا في جزئية صغيرة محددة، وموضوع فرعي ضيق داخل التخصص، في حين أن المطلوب منه تدريسيا هو أن يقوم بتدريس التخصص لطلبة البكالوريوس مركزا على المقولات العامة والتأسيسية في التخصص.

واعترف إن انخراطي في التدريس كان يتطلب مني أن أقرأ أكثر من أربع ساعات للتحضير لكل محاضرة سوف أعطيها لطلبتي. وأعترف أن مهمة التدريس ودخولي الصف هو من جعلني أقرأ مزيدا من الكتب والقراءات، فأعرف مزيدا من الافكار والفكر، وأعرف أهم من كتبوا، واهم النظريات، واهم المقولات، وأهم المراجع العلمية. وبعد سنين طويلة من التدريس التي استدعت القراءة ثم القراءة، سمحت لي القراءة بأن أطور موضوعات بحثية لي ولطلبتي وبسهولة كبيرة، كما سمحت لي بمعرفة أهم من كتب من المنظرين حول هذه الموضوعات. فالتدريس طور من قدراتي البحثية، ومع تطور قدراتي البحثية صار من اليسير علي أن أنخرط في مشاريع بحثية دولية، وأن اشارك في مؤتمرات علمية دولية. التدريس كان نقطة الانطلاق في نمو كل شخصيتي المعرفية والفكرية. وهي من سمحت لي أيضا بأن استكشف عالم الطلبة، وأن اراقب مستويات الطلبة عاما بعد، وسمحت أيضا فيما بعد أن اتولى مواقع ادارية من قبيل رئاسة القسم، ومن ثم عميدا لكلية. ففي الجامعات، يعني العمل الاداري أدارة للعلم وللمشتغلين به، وبدون امتلاك خبرة التدريس لن يكون بامكان أي كان أن يخطط لادارة العلم ومن يشتغلون به.

من المثير للحزن بل والقلق الكبير أيضا، هو التحول الكبير في إدراك معنى الجامعة والعمل في الجامعات، بل وفي إدراك معنى لفظة جامعة، وفي لفظة أستاذ جامعي. فمنذ سنين تشهد الجامعات هرولة كبيرة بل ومجنونة من قبل اساتذتها نحو العمل الاداري، ونحو الجلوس على كراسي الادارة. وبات إشغال موقع أداري هو أكثر جاذبية بل وبات مصدرا للتباهي ورمزا للنجاح وتحقيق الذات. وفي كل يوم باتت تتعزز ثقافة السباق المحموم نحو التعيين في موقع إشرافي أداري على حساب النشاط التدريسي الذي يستتبع النشاط البحثي والتشبيكي الدولي. الجامعات التي عرفناها ودرسنا بها، ودرسنا (بتشديد الراء) حتى سنين خلت، لم تعد الجامعات ذاتها. فثمة ثقافة جديدة مدمرة غزت الجامعات وباتت تنخر في جسدها. وبالنسبة لي فإنني لا أفصل مطلقا وعلى سبيل المثال بين ما يجري في جامعة اليرموك من أزمة مالية طاحنة، وبين هذه الثقافة المدمرة التي غزت الجامعة ونخرت في كل مفاصلها، كما في القلب والعقل منها.

في الوقائع التي تجري في جامعة اليرموك، لا يمكن الفصل مطلقا بين كل تلك الازمات التي وصلت اليها الجامعة من مديونية قياسية، ومن توترات دائمة داخل الجسم الاكاديمي، ومن تدمير للحيز العام الذي يجمع الجسم الطلابي بالاكاديمي أو الذي يجمع الاكاديميين ببعضهم البعض، ومن مستوى عال من الانفصال بين المستوى الاداري والقاعدة الواسعة من الاكاديميين والاداريين، ومن عدد قياسي من القضايا المرفوعة بالمحاكم يتردد فيها اسم جامعة اليرموك وبين تلك الثقافة الطاغية التي باتت تغزو والتي باتت لا تحترم النشاط التدريسي بقدر اهتمامها بالحصول على كرسي في مستوى الادارة. والخطير في هذه الثقافة الطاغية، هو أن الوصول إلى كرسي الادارة لم يعد يعتمد على روافع أكاديمية تنبع من الجامعة ومستوى الاداء فيها، بل باتت الروافع العشائرية والمناطقية والشللية التي تقبع خارج الجامعة هي الروافع الفاعلة في معظم الاحيان.

طغيان الثقافة التي باتت تعرف نجاح الاستاذ الاكاديمي ليس من خلال سجله التدريسي والبحثي والتشبيكي والخدمي لمجتمعه المحلي ولجامعته ولقسمه الاكاديمي، وانما من خلال الموقع الاداري ونوع الكرسي الاداري الذي يشغله، خلق ظواهر ذات تأثير مدمر في البيئة الجامعية. فالمراقب بات يلحظ سباقا محموما على العمل الاداري، ما يعني تهميشا وربما تحقيرا للنشاط التدريسي الذي هو أب كل المهارات التي يمكن للاستاذ أن يتملكها كي يكون إداريا ناجحا.

فطغيان ثقافة الكرسي وسيطرته على الجسم الاكاديمي بات جليا ونحن نرى هذا العدد غير العادي من أساتذة هم في بداية سنين مسيرتهم الاكاديمية ولا يملكون خبرات حقيقية في التدريس وهم يتسابقون على شغل موقع العميد أو نائب العميد أو نائب الرئيس أو موقع المدير لأحد المراكز البحثية. وطغيان ثقافة الكرسي هو ما يجعلنا نميز بين زمن كان المرحوم الاستاذ هشام غرايبه يشغل موقع نائب رئيس الجامعة ولكنه كان يصر على أن يقوم بالتدريس رغم أن موقعه يعفيه رسميا من التدريس في حين أننا بتنا أمام ثقافة جديدة بات من يجلس على كرسي العمادة أو ادارة مركز بحثي يتحصل على أعفاء من أي نشاط تدريسي بالرغم من أن موقعه الاداري يلزمه بالتدريس.

وطغيان ثقافة الهروب من قاعة التدريس وتفضيل الجلوس على كرسي الادارة هو الذي يفسر لنا مشهدية تشتمل على من يأتي لكرسي عمادة كلية كبيرة وهامة وقد انخرط منذ سنته الاولى في أمور الادارة، ولم يكمل بعد السنوات الخمس أو الست من عمله في الجامعة ليتجاوز عشرات الزملاء ممن هم اعلى رتبة واكثر خبرة منه. وطغيان ثقافة الهروب من قاعة التدريس تراه وانت تقرأ السيرة الذاتية لأحد نواب الرئيس وقد شغل تسعة مواقع إدارية خلال عشر سنوات هي كل سنين خدمته، ما يعني أن الادارة كانت هي الخبرة وليس التدريس هو البداية المؤسسة للخبرة في الادارة. وترى طغيان ثقافة الهروب من قاعة التدريس وأنت ترى واحدة من اكبر كليات الجامعة وقد توالى على عمادتها عميدان هم في بداية الاربعيينات من العمر، وحين تتأمل في طاقم العمادة كاملا فستجد أن متوسط عمر كل العاملين في العمادة من عميد ونواب عميد ومساعد عميد لا يتخطى بداية الاربعينيات في كلية تشتمل على اكثر من 140 استاذا يتجاوز عمر نصفهم عمر الخمس وخمسين عاما. مع ملاحظة أن متوسط بدء الانخراط في العمل في التدريس الجامعي قد يقترب من سن الاربعين عاما، وان سن التقاعد هو سبعون عاما. ما يعني أن سن الاربعينات هو بداية العمل المهني الجامعي.

والحال، فإن الدولة وعقلها ويما يشتمل عليه من وزارة تعليم عال، ومجلس عال للتعليم، ومن لجان نيابية ومجالس أمناء على الجامعات تنخرط كلها في صناعة المشهد الجامعي مدعوة جميعها أن تخرج ولو قليلا من تلك القراءة التكنوقراطية للواقع الجامعي في البلاد. وهي مدعوة أيضا أن تخرج ولو قليلا من دائرة القراءات الكمية الاحصائية للمشهد الجامعي التي تقتصر على التمعن في لوحة الارقام من مديونية، ونفقات، وعدد الابحاث المنشورة، وعدد اعضاء هيئات التدريس، وأعداد الطلبة، واعداد المبعوثين، وترتيب الجامعات رقميا في التصنيفات العالمية وغيرها وغيرها. فهي مدعوة لأن تنخرط في قراءات نوعية حقيقية للمشهد الجامعي. فخلف كل تلك الارقام حول الجامعات هناك وقائع نوعية. فالجامعات وقبل أن تكون أرقام وموازنات، هي بشر حاملين لثقافات كلية وفرعية، وهي تشتمل على كائنات لها تكوينها ونوازعها السوسيولوجية والنفسية والثقافية هي من تصنع كل هذه الارقام حول الجامعات.

اتمنى مثلا لو تتخذ وزارة التعليم العالي قرارا يستحيل تقليدا سنويا يقضي باجراء بحث سوسيولوجي أنثروبولوجي للفضاء الجامعي يجعل من الجامعة واساتذتها وطلبتها وكل العاملين فيها فاعلين اجتماعيين مدروسين ومفهومين ويتم التخطيط لهم على اساس هذه الدراسات. فلم يحدث أن جرت دراسة واحدة قامت بها وزارة التعليم العالي مثلا على الاردنيين لجهة تعريفهم للجامعة، وتمثلهم لها، وتوقعاتهم منها. ولم يحدث أن جرت دراسة لطلبة الجامعات من الشمال حتى الجنوب كي نفهم الطلبة وشخصيتهم كجسم طلابي، وكيف يعرفون الجامعة والاستاذ الجامعي وما الذي يتوقعونه بالتالي من الجامعات.


.