من محمد العتيبي (تقرير اخباري)
باريس - 24 - 12 (كونا) -- رغم مساعي تشكيل حكومة جديدة تبدو متراصة الصفوف ومنفتحة قدر المستطاع فإن الشارع الفرنسي يترقب بحذر إدارة رئيس الوزراء الجديد فرانسوا بايرو للمرحلة المقبلة على أمل مواجهة الأولويات الطارئة وإعادة الاستقرار السياسي والاقتصادي.
وكلف بايرو (73 عاما) الذي ينتمي لتيار الوسط بتشكيل الحكومة في 13 ديسمبر الجاري بعد حجب الثقة عن سلفه ميشيل بارنييه بعد ثلاثة أشهر فقط على تكليفه لتكون المرة الأولى منذ أكثر من 60 عاما التي تقر فيها الجمعية الوطنية (البرلمان) مذكرة حجب ثقة عن الحكومة.
وبذلك يكون بايرو سادس رئيس وزراء في عهد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون منذ ولايته في 2017 والرابع في عام 2024 وحده في مؤشر على حالة عدم استقرار سياسي لم تشهدها فرنسا منذ عقود.
واحتفظ وزير الخارجية جان نويل بارو بمنصبه الذي شغله في الحكومة السابقة وكذلك وزير الجيوش سيباستيان ليكورنو الذي يتولى هذه الحقيبة منذ 2022 بالإضافة إلى استمرار برونو ريتايو في حقيبة وزارة الداخلية فيما عين إريك لومبارد وزيرا للاقتصاد والمال والسيادة الصناعية والرقمية.
وشهدت الحكومة الجديدة عودة رئيسي الوزراء السابقين إليزابيت بورن ومانويل فالس ليتسلما وزارة التعليم ووزارة أقاليم ما وراء البحار على الترتيب وتكليف وزير الداخلية السابق جيرالد دارمانان بتولي حقيبة العدل.
وسيعقد أول اجتماع للحكومة في الثالث من يناير المقبل على وقع مرحلة حساسة تعيشها فرنسا على الصعيدين السياسي والاقتصادي حيث تعاني من حالة من الجمود وضعف الدعم البرلماني مما جعل الحكومة السابقة بقيادة بارنييه غير قادرة على تمرير العديد من التشريعات الهامة لاسيما ما يتعلق بالميزانية الجديدة.
ومن أبرز تحديات الحكومة الجديدة أن تكون قادرة على نيل ثقة الجمعية الوطنية وإقرار ميزانية العام المقبل.
ويتزامن ذلك أيضا مع مرحلة من القلق والتوقعات المتباينة حيث ينتظر المواطنون الفرنسيون بفارغ الصبر معرفة قدرة بايرو الذي أصبح في قلب العاصفة على معالجة الأزمات المستفحلة في البلاد وتحقيق التوازن المطلوب لنزع فتيل الأزمات الداخلية.
وسيلقي نجاح بايرو أو فشله في معالجة التحديات بظلاله على مستقبل الحكومة واستقرار البلاد لاسيما وأنه يتعين عليه اتخاذ قرارات صعبة بهدف تقليص العجز العام وتحسين النمو الاقتصادي في وقت تحتاج فيه فرنسا إلى إجراءات عاجلة لضمان استقرار الأسواق المحلية والدولية.
وتنتظر بايرو كذلك مهمة شاقة لإدارة الأزمات السياسية وصياغة برنامج حكومي يحظى بقبول واسع من الأطياف السياسية المختلفة بالإضافة إلى ضمان تمرير الميزانية والقوانين الضرورية لتسيير شؤون الدولة في ضوء ضغوط لتقليص العجز المتوقع أن يبلغ بنهاية العام مستوى يتجاوز 6 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وتعد الأزمة الاقتصادية من أكبر التحديات التي ستواجه حكومة بايرو خاصة وأن ارتفاع التضخم يعد أحد أبرز قضايا المواطنين الفرنسيين ويؤثر بشكل كبير على قدرتهم الشرائية بالإضافة الى ارتفاع الدين العام ما يضع الحكومة أمام ضغوط لاتباع سياسات مالية تقشفية قد لا تحظى بتأييد شعبي واسع.
وأطيح بالحكومة السابقة بعدما عاقب اليسار واليمين المتطرف بارنييه على لجوئه إلى استخدام صلاحيات دستورية خاصة لتمرير قانون الضمان الاجتماعي المثير للجدل ضمن ميزانية الدولة في إجراء لم يحظ بالتأييد بهدف توفير 60 مليار يورو لتقليص العجز.
وقالت زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان إن انهيار حكومة بارنييه "هو السبيل الوحيد الذي يتيحه لنا الدستور لحماية الفرنسيين من موازنة خطرة وغير عادلة بل وعقابية".
ويقضي البرلمان الفرنسي حاليا عطلة حتى 13 يناير المقبل ولكن من المرجح عقب عودته للانعقاد أن يواجه بايرو وفريقه تهديدا مستمرا بسحب الثقة.
ويأمل الرئيس الفرنسي أن يتمكن بايرو من تجنب التصويت بسحب الثقة حتى يوليو المقبل على الأقل عندما تجري فرنسا انتخابات برلمانية جديدة.
وعلى الصعيد الدولي تعد قضية الهجرة واحدة من أكثر القضايا المثيرة للجدل في السياسة الفرنسية في ضوء تزايد أعداد المهاجرين ما أدى إلى تفاقم الضغوط السياسية لإرساء سياسة هجرة أكثر صرامة.
ومن هذا المنطلق يتطلب من الحكومة الجديدة اتخاذ قرارات جريئة بشأن كيفية إدارة هذا الملف الشائك سواء من خلال إصلاح قوانين الهجرة أو من خلال التعاون مع الاتحاد الأوروبي لإيجاد حلول مشتركة.
ولا تمثل هذه القضية تحديا سياسيا فحسب بل تؤثر أيضا على الأمن الاجتماعي والاقتصادي في فرنسا ما يجعل من الصعب إيجاد توازن بين القيم الإنسانية والأمن الوطني.
وتعيش جزيرة (مايوت) الفرنسية الواقعة في المحيط الهندي مأساة بعد اعصار (تشيدو) الذي وقع في منتصف ديسمبر الجاري والحق أضرارا جسيمة في الارواح والبنية التحتية.
وتعد الهجرة واحدة من أبرز القضايا التي تواجه جزيرة (مايوت) حيث تشهد تدفق آلاف المهاجرين غير الشرعيين على امل الحصول على حياة أفضل او الجنسية الفرنسية.
ولم تكن الاحتجاجات الاجتماعية بعيدة عن فرنسا في السنوات الأخيرة حيث خرج المواطنون إلى الشوارع احتجاجا على الإصلاحات الاقتصادية مثل قانون التقاعد المثير للجدل والتي اعتبروها غير عادلة ومن المتوقع ان تتصاعد هذه الاحتجاجات في حال لم تتخذ الحكومة الجديدة خطوات ملموسة للتعامل مع المطالب الشعبية.
ومن منطلق المسؤولية فإنه يجب على رئيس الحكومة الجديد بايرو أن يكون مستعدا لإدارة هذه التوترات الاجتماعية من خلال الحوار السياسي مع الأحزاب المعارضة والنقابات العمالية لاسيما وأن اللجوء إلى تعديلات اقتصادية جذرية قد يؤدي إلى المزيد من الاحتقان إذا لم يتم التعامل معها بحذر.
وعلى الرغم من هذه التحديات الكبيرة لكنها تشكل في نفس الوقت فرصا يمكن أن يستفيد منها بايرو لتحقيق توازن بين الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية ويعزز من خلالها مكانته السياسية واستقرار الحكومة.
وتترقب فرنسا مستقبل حكومتها الجديدة بالقيادة الجديدة مع توقعات متفاوتة بشأن مدى قدرة رئيس الحكومة على إعادة الاستقرار السياسي والاقتصادي هذا إذا تمكن من اقناع البرلمان بتقديم الدعم الكافي لتنفيذ إصلاحاته.
وتعيش فرنسا أزمة سياسية منذ أن دعا ماكرون إلى انتخابات تشريعية مبكرة في الصيف أفضت إلى برلمان منقسم بين ثلاث كتل متناحرة وهي التحالف اليساري والمعسكر الرئاسي واليمين المتطرف ولا يملك أي منها أغلبية مطلقة.
وشهد الأسبوع الأول من تعيين بايرو في رئاسة الوزراء جدلا بشأن مشاركته في اجتماع للمجلس البلدي في مدينة (بو) في جنوب غرب فرنسا والتي يتولى رئاسة بلديتها بدلا من حضور خلية أزمة حول (مايوت).
ورفض الحزب الاشتراكي المشاركة في الحكومة الجديدة ملوحا بالسعي لحجب الثقة عنها فيما اعتبر رئيس الحزب الاشتراكي أوليفييه فور الإعلان عن الحكومة أن رئيس الوزراء "يضع نفسه بين يدي اليمين المتطرف".
كما انتقدت رئيسة كتلة (فرنسا الأبية) التي تنتمي لتيار اليسار الراديكالي في البرلمان ماتيلد بانو تشكيل "حكومة مليئة بأشخاص تم رفضهم في صناديق الاقتراع وساهموا في انحدار بلدنا .. مدعومة من مارين لوبان والتجمع الوطني" اليميني المتطرف داعية مجددا إلى حجب الثقة عن الحكومة واستقالة ماكرون.
وكان الرئيس الفرنسي أعلن في وقت سابق خلال خطاب موجه للأمة تمسكه بالبقاء في منصبه "بشكل تام" حتى انتهاء ولايته في 2027 وهاجم بشدة اليمين المتطرف واليسار الراديكالي متهما إياهما بتشكيل "جبهة مناهضة للجمهورية" تهدف إلى إثارة الفوضى وإسقاط الحكومة. (النهاية)
م ع / ط م ا