في بلد منقسم على ذاته، متورّط حتّى النّخاع الشوكي في حرب لا نوى منها يعلم مسبقا أنّه خاسر فيها، منهار في الميادين كلّها، في بلد مقسوم بالتبعيّة السياسية والطائفية، مدار من خارج لا يريد له الخير، متفلّت ومتروك من داخل لا يريد الّا مصلحته الخاصة، لا نعجب اذًا من انقسام الرأي العام حول العملية الاسرائيلية “تحت الحزام” التي قتلت وبترت أطرافًا وفقأت عيونًا وجرحت المئات من مناصري ومقاتلي حزب الله. وتلتها في اليوم التالي موجة ثانية من انفجارات الأجهزة اللاسلكية خلّفت قتلى وجرحى.


المشهد السياسي دبلوماسيّ بامتياز، حيث وضعت الخلافات السياسية على جنب، وأمّت دارة النائب علي عمار شخصيات من جميع التوجّهات السياسية والطائفية لتقديم واجب العزاء بنجله مهدي الذي اغتيل في انفجارات ال”بيجر”. وتوالت التصريحات التلفزيونية للأطراف السياسية كافة للوقوف يدًا واحدة في وجه عدو لا يردعه رادع، وللتشديد على أهمية الوحدة الداخلية وللتضامن مع المصاب الوطني الأليم….


وكلام كثير مكرّر صار يجترّه السياسيون في المآسي الوطنية الكبرى.


أما في المشهد الشعبيّ العام، فالمصاب في أعين الكثيرين ليس وطنيًا بل حكرًا على فئة معينة نالت حصّتها من الغضب الشعبيّ والرفض التّام للدّخول في حرب لا ربح فيها. وهذا ما ظهّرته ردود فعل شريحة واسعة من اللبنانيين على وسائل التواصل كافة.



بل وأكثر، فما بين موجتي الانفجارات وبعدهما ضجيج شماتة لا يهدأ، “الله كبير” لسان حال لبنانيين كثر من معارضي الحزب وكأن الذين إستشهدوا ليسوا لبنانيين، في وقت على الانسانية أن تنتصر والأخلاق أن تتفعّل خاصّيتها…


غصّت منصة X مثلًا بالردود والردود على الردود بلغة أقل ما يقال فيها أنها مبتذلة ومغموسة بالحقد.


هذا الكره اللبناني-اللبناني الذي يتجلّى بأسوأ صوره دومًا في المآسي فاق الحدّ هذه المرّة ولعلّه أهمّ انتصارات اسرائيل في الدّاخل اللبناني، وهي تترقّب ضعفنا وتعوّل على هذه الانقسامات للانقضاض على ما تبقى منّا.


ماذا تبقى منّا؟ الذي يظنّ نفسه أكبر من الجميع صار يعلم أنه أصغر من كبسة زر، نحن بلد صغير بالحجم كبير بالمشاكل، موقعه الاستراتيجي سبب بلائه، وكلّ الصريخ الشامت في فضاءنا لن يثني اسرائيل عن مخططاتها، عندما يستوعب كلّ فريق حجمه الحقيقي نبدأ فعليًا بايجاد الحلول الداخلية، أمّا الخارج فلا قوة لنا عليه.


يقول الفيلسوف آرثر شوبنهاور:” أن تشعر بالغيرة فذلك طبيعيّ، لكن أن تشمت فذلك شيطانيّ”. لكن يبرر البعض آراءه بأنّ شماتة اليوم هي ردّ على شماتة الأمس، و”البادي أظلم”، لكنّهم غافلون أنهم ربما يتحوّلون نسخة عن الظالم “البادي”.


لا يمنع أنّ للبعض ضمير حيّ، يمنعهم عن الشماتة لكنهم أيضًا يعيشون صراعًا بين ما يؤمنون به وبين الواجب في هكذا ظرف لذا يآثرون الصّمت الراقي. وللبعض الآخر كمية نفاق فظيعة تجعلهم منفصمين تمامًا عن آراءهم الاعتيادية، هؤلاء أخطر بعد من الشامتين لأنّهم ركّاب موجة لا يعوّل على مواقفهم.


 ان ما حصل في هذين اليومين، وربما ما سيستمر في الأيام المقبلة، من اغتيالات منظّمة واختراقات أمنيّة ومن شماتة بالموت ومن نفاق واسع النطاق يضعنا أمام سؤال ملحّ: من البديهي أن اسرائيل لا انسانية عندها، ولكن هل ماتت الانسانية في لبنان؟..


 “الوطن هو ألّا يحدث ذلك كلّه”، لكنّه حدث والتاريخ يمتحننا في أخلاقنا، يسجّل ولا يرحم، وسوف لن ينصفنا في انسانيتنا المفقودة.


الانسانية فعلًا في مكان آخر.

موقع سفير الشمال الإلكتروني