أنجزتُ منذ سنوات دراسةً عن الهويّة اللبنانيّة. وقد قرأتُ لذلك كُتُباً عديدة، أذكر منها كتابًا للدكتور نسيم عون عن الهويّة واللغة. ومن حينٍ لآخر أعاودُ قراءة هذا الكتاب المُهمّ. ويمكن التأكيد بأنّنا من خلال اسم الشهرة (العائلة) نعرف كلّ لبناني وبعدها نتأكّد من هويّته وانتمائه.. الطائفي! صادفني هذه المرّة أثناء حضوري معرضًا، اسمَ عائلةٍ غريبٍ على مسامعي، لفنّانة تُدعى "ماجدة ملكون"، أو كما ورد في الدعوة وكتالوغ الفنّانة باللغة الأجنبيّة "Magda Malkoun". فكّرت كثيرًا بمطالعتي للكُتيّب الذي يحوي صورًا وشرحًا عن بعض اللوحات باللغة الإنكليزيّة، وسألتُ نفسي: لماذا باللغة الإنكليزيّة؟ والموضوع المُعالج بعمق، هل يمكن الكتابة عنه بالعربيّة؟ هل تتعارض هوّيتُنا اللغويّة مع الهويّة الفنّية؟ وقد أعجبني المعرض كثيرًا، فهل أقول: "واااو" (بالعربيّة) لأعبّر عن إعجابي؟ أم أقولها: wooow بالأجنبيّة لتُؤخذ بعين الاعتبار؟وبرأيي الشخصي، أنّ نعيًا للهويّة اللغويّة، كان مدخلاً لنعي الهويّة الفنيّة، وقد أستوحت الفنّانة من أقوال جبران خليل جبران، كما تقول، ومن أسلوبَيْ غوستاف كليمت وموديلياني في الرسم، وهذا واضح في أعمالها. من الجدير ذكره، فنّيًا، أنّ التجربة مُلفتة. فقد أستخدمت التقنيات الحديثة، وغاصت في عالم الكولاّج من خلال تجميع صور ممزّقة من تاريخ لبنان المُلصق في صحف وجرائد الحرب الأهليّة. فمن عايش الحرب اللبنانيّة، يعي تمامًا تفاصيل كل لوحة مليئة بأدقّ اللحظات التي عاشها اللبنانيون إبّان الحرب الأهليّة. والمواضيع التي ملأت كلّ لوحة ما هي إلاّ وقائع من الحياة اليومية في لبنان. ومَهَرَتْ أعمالَها بلمساتٍ تعيد للفنّ عالمه الواقعي التجريتي. فالعمل المليء بالمشاهد والصور المُمزّقة توحي -تقنيًّا- بالعالم "الرقمي"، الذي تكلّل بلمسات من ألوان الأكريليك. لتذكّرنا الفنانّة أن الهويّة الرقميّة يتزعّمها الإنسان. من الممكن أنّ الهويّة تتّصف بالثبات، في حالة الاستقرار المكاني. فالفنّانة (بحسب الكُتيّب) تتنقّل بين دبي وبيروت. وقد زارت دول أوروبّا وأميركا، وقد يكون ذلك بحثًا جدّيًا للبحث عن هويّة فنّية! قلّما نجد رسّامًا على مرّ العصور لم يرسم صورة ذاتيّة لنفسه (autoportrait)، لكنّ ابداع الفنّانة تجلّى في رسم شخصيّات عديدة ومختلفة نسبةً إلى اختلاف تجربتها ورحلاتها.
وليس المقصود هنا بالرحلات المكانية، بل المجتمعيّة. فداخل البيئة اللبنانيّة تكثُر الرحلات مع أزمات المجتمع وتعدّد الهويّات. حيث تُظهر الفنّانة اختلاف الشخصيّات برسم الإطار الخارجي لشخصيّةٍ (والغالبيّة من النساء) التي تؤطّر الأزمات اللبنانية، على اختلاف مجالاتها. "هويّةُ الوطنِ" قدّمتها من خلال رسمِ إطار لشخصيّات نسائية تبتلع أزمات لبنان في خطّ زمني يحوي الماضي والحاضر الذي ينعي مستقبل الهويّة! قد أوافق الفنّانة، على نعي الهويّة، لكنّ هل يَعقُل أن اللغة المستخدمة في ورقة النعي هي اللغة الإنكليزيّة؟ وبالتالي لا تصل رسالة النعي إلى أهل الفقيدة (الهويّة). ولو اعتبرنا أنّ الفنّ القيّم هو نخبوي، ومحصورٌ بفئة من النخبة التي تفهم لغة الفنّ، فهي بالتالي لغةً عالمية، لا تحتاج إلى قاموس لفهمها. طبعًا، أقصد نخبة الفنّانين. ولو كنتُ شخصيًّا خرّيج معهد الفنون في الجامعة اللبنانيّة، ولستُ مُلمًّا باللغة الإنكليزيّة، فهل يمكنني الكتابة أو الحديث عن الأعمال الفنّية الرائعة، بلغتنا؟ أم أنّ لغة نخبوية أخرى فُرضت على الفنّ الجميل؟ وماذا لو لم يكن الفنّان مُتقنًا للغة مغايرة للّغة الأمّ؟ هل الفنّ الراقي هو نتاج من خارج اللغة الأمّ.. العربية؟ لا يحقّ لي تحديد هويّة الأفراد في لبنان، ومن يحمل الهوية اللبنانية ومن لا، لكلّ شخص الحرّية الكاملة في اختيار هويّته، لكنّ الفنّ بشكل عام، ولو خصّصنا: الرسم والموسيقى هما لغة عالمية، تصل لعقول الناس كافّةً. هذه الثغرة الوحيدة (اللغة الإنكليزيّة) في المعرض. والفنّانة قدّمت طرحًا غير تقليدي لوضع السلطة الأنثوية بمواجهة المجتمع الذكوري. أي نعم قد يضعنا العنوان بخانة "ردّة الفعل الإنفعاليّة" على المصطلح "البطريركي" بمصطلحها الإنكليزي: The Matriarch (أو كما عرّبها غوغل الأمّ الحاكمة). لكنّ أهمّية الرسالة تكمن في التفاصيل. ففي كلّ لوحة، نجد صورة امرأة تعكس الحياة اليوميّة للّبنانيين على مختلف مشاربهم. ومع هذا فإن الطرح "الهويّاتي" منقوص! فمفهوم الهويّة يتّسع لعدّة مكوّنات غير المكوّن الجندري. فلو سلّمنا جدلاً بأنّ اللغة (العربية) ليست سوى عنصر من مكوّنات الهويّة اللبنانيّة، فانتقاصه يعني إبعاد جزء كبير من اللبنانيين الذين يحملون مكوّن لغوي مغاير للغّة العربية. وبالتالي تستهدف رسالة المعرض التي أراها قويّة وناقدة للواقع اللبناني، مرونة اللبناني، وتحديدًا المرأة، خلال التعاطي مع المشاكل الذي سبّبها غياب الدولة، وبالتالي أفقدت المواطن الهويّة التي نعتها الفنّانة في معرضها. وهذا المحتوى يَصلُح تمامًا كمادّة يتناولها معرضًا فنّيًا يندرج تحت خانة "الفنّ للمجتمع"، بحسب بليخانوف. وهذا معاكس لمعرضين شاهدتهما بالأمس، لفنٍّ لم يقدّم الكثير كتقنيّة جديدة، لا بل أحداها كان تجسيدًا، وبحسب بليخانوف أيضًا، لنظريّة "الفنّ للفنّ"! ومن ناحية العرض كان مُزريًا (المعرض الآخر)، فقد كان مُقامًا بأحد الفنادق الفخمة، حيث عُرضت اللوحات خلف المقاعد وطاولات الطعام! ومن أهمّ العناصر التي يكتمل بها المعرض، هو احترام المُشَاهد، فقد كان معرض ماجدة ملكون متعمّقًا من ناحية الموضوع، ومن ناحية الأسلوب. أمّا ما عابه برأيي هو استخدام لغة هجينة على لغة هويّتنا، وليس كلامي هو مجرّد "ترند" يصبّ في خانة التعصّب للغة عربية مع عدم الانفتاح على معرفة لغة أجنبيّة. على العكس فالتزاوج الثقافي اللغوي مطلوب لتطوير هويّتنا اللبنانية. الهويّة الوطنيّة تحتاج رحلة بين الثقافات والحضارات لتنمو وتتطوّر. ومن الممكن التخلّي عن بعض التقاليد المكوّنة لهويتنا، التقاليد البالية التي تعيق تطورها. فلا يكفي أن ننتقد هويّتنا بقالب فنّي مع استخدام الغلاف اللغوي الأجنبي، خاصّةً أن الفنانة تعيش بين بلدين عربيين (لبنان ودبي)، فهل تتحدّث الأجنبية في البلدين؟ وإن كان ذلك، هل تعرُض في لبنان وتعتقد أن هناك لبنانيين من الفئة المستهدفة لا يتقنون إلاّ الإنكليزيّة؟ لبنان بلد الهويّات المُتعدّدة، فقد قال ذلك شربل روحانا في أغنية "هاي كيفك؟ سا فا؟" يمكننا كما الكثير، مواجهة تعدّد الهويّات الطائفيّة، لكن يستحيل أن نعالج ما زرعه الفرنسيّون في مناهج تفرض اللغة الفرنسيّة، وما ألزمت به الشركات طالبي الوظائف بإتقان اللغتين. فهل ستلفت ماجدة ملكون الانتباه إلى افتقار هويّتنا للغةٍ تطاول جميع اللبنانيين؟ لست عروبيّ الهوى ولا ناصريّاً، لكنّ ما يعنيني هو أن الفنّان النخبوي، مثل الرسامة المذكورة أن تضيء مكوّن اللغة في الهويّة ولو كان نعيًا لهذه الهويّة الميّتة. ويمكنني القول ان الفنّانة تشارك في نعي جزء أساسي من الهويّة برأيي. وأستعير في الختام ما قال الفنّان الكبير فيلمون وهبي: سنفرلوه عا السنفريان وشو ما قلّك "sans faire rien".