كما كان منتظرًا، نشر مصرف لبنان هذا الأسبوع بيان الوضع المالي الخاص به، الذي يعكس أرقامه لغاية أواخر شهر تشرين الأوّل الماضي. وبطبيعة الحال، ظلّت الأرقام تعكس الضغوط المستجدّة، الناتجة عن الحاجات الطارئة التي تفرضها الحرب الإسرائيليّة على لبنان. أهم ما عكسته الأرقام، كان استمرار تراجع حجم احتياطات العملات الأجنبيّة، خلال النصف الثاني من شهر تشرين الأوّل، تمامًا كما حصل في النصف الأوّل من الشهر. وفي المقابل، استمرّ التراجع في حجم أموال القطاع العام، المودعة لدى مصرف لبنان، وهو ما أشّر إلى تراجع نسبي عن سياسة التقشّف الحاد، التي كانت متبعة سابقًا.
في النتيجة، وفي خلاصة الأرقام المتوفّرة لكامل شهر تشرين الأوّل الماضي، بات بالإمكان القول إنّ المصرف اضطرّ للخروج خلال هذه الفترة عن النمط السائد منذ أكثر من سنة، والذي قام على مراكمة احتياطات العملات الأجنبيّة، مقابل لجم الإنفاق العام إلى أقصى حد، بالاتفاق مع وزارة الماليّة. أمّا التطوّر الإيجابي الأهم الذي كان من الممكن ملاحظته، فهو الارتفاعات الكبيرة في قيمة احتياطات الذهب الموجودة لدى مصرف لبنان، بفعل ارتفاع أسعار الذهب العالميّة. كما حافظ المصرف على انضباط حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة اللبنانيّة، وهو ما سيلعب دورًا في الحفاظ على الحد الأدنى من التوازن في سوق القطع، ومنع أي انفلات في سعر صرف الليرة اللبنانيّة.تراجع الاحتياطات وانخفاض ودائع القطاع العامخلال النصف الثاني من شهر تشرين الأوّل، شهدت احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبيّة تراجعًا بقيمة 92.65 مليون دولار، وهو ما يُفترض أن يُضاف إلى التراجع الذي شهده النصف الأوّل من الشهر، بقيمة 344 مليون دولار. وفي النتيجة، يكون المصرف المركزي قد تكبّد تراجعًا إجماليًا قيمته 436.65 مليون دولار أميركي، على مدى شهر تشرين الأوّل. وبحلول نهاية الشهر، كان حجم الاحتياطات المتبقي قد استقرّ عند حدود الـ 10.26 مليار دولار. ورغم كل هذه التراجعات، مازالت قيمة الاحتياطات أعلى بـ 1.69 مليار دولار، مقارنة بحجم الاحتياطات التي كانت موجودة عند مغادرة رياض سلامة لمنصبه، والتي بلغ حجمها في ذلك وقت نحو 8.573 مليار دولار.
لم يكن من الصعب، عند قراءة بيان الوضع المالي، فهم أسباب تراجع الاحتياطات خلال شهر تشرين الأوّل. فحجم حسابات القطاع العام تراجع خلال الفترة نفسها –طوال تشرين الأوّل- بقيمة 108.55 مليون دولار أميركي. أي بمعنى آخر، لم يكن بإمكان مصرف لبنان ووزارة الماليّة ممارسة السياسة التقشّفية السابقة التي تم اعتمادها منذ صيف العام 2023، والتي قامت على مراكمة واحتجاز الإيرادات العامّة لدى مصرف لبنان. مع الإشارة إلى أنّ هذه السياسة التشقفيّة السابقة هي ما سمح للمصرف المركزي –قبل تشرين الأوّل- بمراكمة الاحتياطات من الإيردات العامّة المدولرة أولًا، وعبر استخدام السيولة بالليرة التي يجري امتصاصها –عبر هذه السياسة التقشفيّة- لشراء الدولارات من السوق.
هكذا، لم يعد بإمكان المصرف المركزي زيادة احتياطاته، وتحقيق أهداف سياسته النقديّة، على حساب الماليّة العامّة، كما جرى طوال الأشهر السابقة. بل باتت الحكومة مضطرّة لاستعمال ودائعها لدى مصرف لبنان، وهو ما فرض الإفراج عن الإيرادات التي جرى احتجازها سابقًا، في إطار السياسة التقشفيّة. وهذا ما فرض بديهيًا تراجع حجم الاحتياطات.
في الوقت نفسه، كان من المُلاحظ أن حجم ودائع القطاع المالي –ومنه المصارف- لدى مصرف لبنان تراجع بقيمة 203.5 مليون دولار أميركي خلال النصف الثاني من تشرين الأوّل، وهو ما يُضاف إلى تراجع مماثل بقيمة 434.6 مليون دولار خلال النصف الأوّل من الشهر. وبشكل عام، يمكن القول أن جزءاً من هذا التراجع –بقيمة تقدّر بـ 200 مليون دولار- نتج عن السحوبات الاستثنائيّة التي نصّت تعاميم مصرف لبنان على منحها للمودعين في ذلك الشهر، وهو ما ساهم بدوره في استنزاف احتياطات المصرف المركزي خلال الفترة نفسها.التحوّلات في قيمة الذهب والسيولة المتداولة بالليرةخلال النصف الثاني من تشرين الأوّل، ارتفعت قيمة احتياطات الذهب الموجودة في مصرف لبنان بقيمة 1.15 مليار دولار أميركي، لتجاوز حجم هذا البند الإجمالي حدود الـ 25.62 مليار دولار أميركي. وكما هو معلوم، يقوم مصرف لبنان دوريًا بتحديث قيمة هذا البند كل 15 يومًا، وفقًا لأسعار الذهب العالميّة، وهو ما ساهم بتحقيق هذه الأرباح المحاسبيّة مؤخرًا بسبب ارتفاع أسعار المعدن الأصفر مؤخرًا. ويبقى من الضروري الإشارة إلى أنّ قيمة احتياطات الذهب باتت توازي اليوم –بعد الارتفاعات المتكرّرة في أسعار الذهب- أكثر من ربع حجم مطلوبات المصرف المركزي.
في المقابل، ورغم كل هذه الضغوط المستجدة، ظلّ مصرف لبنان قادرًا على ضبط حجم السيولة المتداولة بالليرة اللبنانيّة في السوق، والذي تراجع من 52.04 ترليون ليرة لبنانيّة في منتصف تشرين الأوّل، إلى 50.72 ترليون ليرة لبنانيّة في نهاية الشهر. وهذا ما يعني أن حجم هذه الكتلة النقديّة تراجع بما قيمته 14.78 مليون دولار أميركي، خلال النصف الثاني من تشرين الأوّل، وفق سعر الصرف الفعلي.
ومن البديهي التذكير بأنّ مصرف لبنان يواظب على سياسة تسديد رواتب موظفي القطاع العام بالدولار الأميركي، وفق سعر الصرف الفعلي، لتفادي ضخ المزيد من الليرات في السوق. وفي جميع الأحوال، من المتوقّع أن يظل مصرف لبنان قادرًا على ضبط سعر صرف الليرة اللبنانيّة، طالما أنّ حجم السيولة المتداولة بالعملة المحليّة مازال حتّى هذه اللحظة تحت السيطرة.
في النتيجة، تعبّر كل هذه التحوّلات في ميزانيّة مصرف لبنان عن تداعيات الحرب، وآثارها على سياسات الحكومة الماليّة. غير أنّ السجال السياسي المتوقّع خلال الفترة المقبل، سيرتبط تحديدًا بآليّات تعديل موازنة العام 2025، والتي يفترض أن تحدد سقوف الإنفاق خلال العام المقبل.