تشكل الأحداث الراهنة في لبنان وفلسطين، منذ طوفان الأقصى، في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، نقطة تحول كبرى في أحداث المنطقة، على مختلف المستويات. إلا أنها في الوقت عينه، تعكس تقدم حركات الإسلام السياسي إلى صدارة وقيادة الأحداث وفي مقدمتها وقرارها، بعد أن كانت هذه القيادة، في مطلع القرن الماضي، تحت إدارة وقيادة التيار القومي العربي، الذي أنتج أولاً الناصرية بزعامة جمال عبد الناصر، بالتوازي مع حزب البعث العربي الاشتراكي، بشقيه السوري والعراقي. وقد عُرفت واختبرت حدود التجربتين في كل من مصر ومن ثم في سوريا والعراق، وليس المكان الآن لمناقشة هذه التجارب والنتائج المعروفة لدى قسم كبير من العرب.إذا كانت نظرية وحدة الساحات، قد تمت ووضعت هندستها ونُظمت تحت قيادة إيران ورعاية الإمام علي خامنئي، الذي وثق علاقته ودعم حركة حماس السنية في فلسطين، وحزب الله الشيعي في لبنان، فإن فروقاً كبيرة باتت ترتفع وتتمظهر لدى مرجعية الطائفة الشيعية في لبنان التي تقود الحراك السياسي والعسكري من لبنان وتنسق وتتحالف مع ما يجري في فلسطين والعراق واليمن.
صحيح أن الحراك السياسي الشيعي قد تصدر المشهد في العراق ولبنان منذ احتلال أميركا للعراق، وسقوط صدام حسين ونظامه السياسي، بالترافق مع تمدد السيطرة والنفوذ الإيراني، لكن الحراك الشيعي في البلدين بات يتأثر ويخضع في المدة الأخيرة، باختلاف المرجعيتين الروحيتين للطائفة، ويتوزع بين المرجعية العربية التاريخية المقيمة والمتمركزة في النجف العراقي، وبين المرجعية الأخرى الثانية المستجدة، مع نجاح قيادة ثورة الخميني في دولة إيران، والمقيمة في مدينة قم الإيرانية، ويقف على رأسها الآن ويوجهها المرشد الأعلى السيد علي خامنئي.مرد ومناسبة هذا الكلام الآن، هو الاختلاف أو التباين الذي ظهر سابقاً، والذي بدأ يتمظهر ويتضح أكثر مؤخراً، في مواقف وإرشادات وتوجهات كلا المرجعيتين، إن في النجف الأشرف أو في قم. أي لدى الإمام خامنئي والإمام السيستاني، إزاء الأحداث التي وقعت مؤخراً في لبنان وفلسطين.
أولى المؤشرات ظهرت، إثر اغتيال أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله من قبل إسرائيل، في ضاحية بيروت الجنوبية. فرد فعل المرجعيتين ظهر مختلفاً في النبرة والتوجه والاستخلاصات السياسية.
السيد الخامنئي، وقف خطيباً في صلاة الجمعة الشهيرة وإلى جانبه بندقية، تأبيناً للسيد نصرالله. وألقى خطبة باللغة العربية طالب فيها شباب حركة أمل وحزب الله في لبنان، الاستمرار في المقاومة المسلحة بوجه إسرائيل وأميركا، مركزاً بشكل خاص، على شباب حركة أمل وحزب الله. مع العلم وكما هو معروف، أن حركة أمل لا تقلد الإمام الخامنئي ولا تؤمن بنظرية ولاية الفقيه، التي أطلقها الإمام الخميني وتعمل إيران بموجبها الآن. وقد يكون ضم حركة أمل إلى النداء من قبل الإمام الخامنئي، من باب استغلال الظروف، وقد بالغ في الأمر قائلاً: "يا أهلنا المقاومينَ في لبنانَ وفلسطين! أيها المناضلونَ الشُّجعان! أيها الشعبُ الصبورُ الوفي! هذهِ الشّهادات، وهذهِ الدّماءُ المَسفوكة، لا تُزعزعُ عَزيمَتَكُم، بل تَزيدُكُم ثباتًا".
وقال: "واليوم، فإنّ المقاومةَ في المنطقة لن تتراجعَ بشهادة رجالِها، والنّصرُ سيكونُ حليفَ المقاومة. المقاومةُ في غزّةَ حيّرتِ العالم، وأعزّت الإسلام".
وطالب المقاومة في لبنان وفلسطين في الاستمرار على درب النضال من دون هوادة.أما العلامة المرجع السيد السيستاني، فقد أصدر بياناً مهماً ومؤثراً في نعي السيد نصرالله، قال فيه: "لقد كان الشهيد الكبير انموذجاً قيادياً قلّ نظيره في العقود الأخيرة، وقد قام بدور مميز في الانتصار على الاحتلال الإسرائيلي بتحرير الأراضي اللبنانية، وساند العراقيين بكل ما تيسر له في تحرير بلادهم من الإرهابيين الدواعش، كما اتخذ مواقف عظيمة في نصرة الشعب الفلسطيني المظلوم حتى دفع حياته الغالية ثمناً لذلك".
الملاحظ أن بيان المرجع السيستاني لم يتدخل في مستقبل المقاومة، ولم يدل بأي توجيهات للمستقبل واكتفى بكلمات العزاء والترحم على الشهيد.
المفارقة الثانية التي ظهرت مؤخراً لتبرز الفرق بين توجهات المرجعيتين، بانت في البيان الفريد من نوعه الصادر عن المرجع السيستاني في الرابع من الشهر الجاري، والذي جاء بعد تطور عمليات الهجوم الإسرائيلي في لبنان وغزة، حيث دعا السيد السيستاني خلال استقباله ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق، إلى منع التدخلات الخارجية وتحكيم سلطة القانون وحصر السلاح بيد الدولة ومكافحة الفساد!عملياً يشكل كلام السيستاني نقيضاً مباشراً لكلام الخامنئي، بل يمكن اعتباره خطاً موازيا، لا يلتقي مع خط الخامنئي المستند إلى تضحيات ودماء ومقاومة شباب لبنان وفلسطين. فيما يمكن اعتبار توجهات السيستاني مطابقة لتوجهات خصوم حزب الله، خصوصاً لناحية نظرية حصر السلاح بيد الدولة والالتزام بتطبيق القوانين، والتركيز على الإصلاح واختيار الكفاءات العلمية المتقدمة في التعيينات الإدارية والوظيفية في الدولة.
فأي خط سيحقق التفوق والتقدم، وماذا ستعتمد الطائفة المستهدفة من العدو الإسرائيلي بالتدمير والقصف، الآن وبعد انتهاء المعارك؟ هل تبقى على خط السيد حسن نصرالله ونعيم قاسم، أم تلتزم بخط السيد السيستاني والإمام محمد مهدي شمس الدين، الذي كان سبّاقاً في الطلب من الشيعة في الوطن العربي، أن يلتزموا مشروع الدولة أينما حلّوا؟