منذ بداية الحرب الدائرة على غزّة ولبنان عوّدتنا واشنطن أن تكون تارةً في دور الوسيط والمفاوض، وتارةً أخرى تعبّر عن موقفها الطبيعي كحاضن وداعم مطلق لربيبتها اسرائيل، وهذا الدعم الظاهر وبعضه المستتر في السلوك الأميركي ليس عبثيّاً بل هو تعبير عن عقيدة ومنهاج في السياسة الدوليّة غالباً ما تنتهجه واشنطن طبقاً لنظرية ما يسمى “النظريّة الواقعيّة في العلاقات الدولية”، التي تعتمد بشكلٍ أساس على التعاطي مع الشؤون الدوليّة بمنطق الأنانيّة والمصالح، ويُتَرجم ذلك من خلال تعزيز القوّة وفرض السيطرة والنفوذ ودعم الحلفاء الموثوقين.


إذاً، الولايات المتّحدة تثابر في دعم الكيان بناء على إيمان وعقيدة أنّ هذا الدعم سوف يعود لأميركا بالفائدة وتحقيق المصالح العُليا عبر تثبيت أقدامها في منطقة تعتبرها حيويّة جدّاً كالشرق الأوسط، ناهيكم عن البُعد الديني العقائدي الذي يؤمن به فريق واسع من الجماعات الأمريكيّة الذي يعتبر أنّ قيام اسرائيل هو مقدّمة لنزول السيّد المسيح المخلّص، كلّ هذا جعل من أميركا سخيّة في تقديم الغالي والنفيس في سبيل تعزيز صمود إسرائيل في هذه الحرب ودفعها لتحقيق تفوّق وفرض توازنات تُبقي على مصالحهما المشتركة في الأمن والردع والاقتصاد والنفوذ حيّةً وثابتةً في المنطقة.


بناءً على ذلك وخلال إدارة الرئيس السابق جو بايدن، وصل الدعم لإسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة، وذلك منذ بداية حرب الطوفان التي شكّلت علامة فارقة أثّرت على صورة اسرائيل الردعيّة، ثمّ الاختلال العميق في نظريّتها الأمنيّة القائمة على التفوّق وقدرة الصدّ والحسم السريع، فكان الدعم العسكري والاستخباراتي والدبلوماسي، وتقديم مساعدات ماليّة بلغت مئة مليار دولار.


وهكذا نجد أنّ أميركا لم تدّخر جهداً لا في المال، ولا في إرسال شحنات الأسلحة، ولا في استجلاب البوارج الحربيّة، ووضعها في عرض البحر، ولا في الجهد الدبلوماسي بالمحافل الدوليّة، وإشهار الفيتو في وجه أيّ قرار قد يعرّض إسرائيل لمجرّد إحراج، إلّا وقدّمته لإسرائيل، أضف أنّ آلة الإعلام الصهيونيّة لم توفّر جهداً في تأليب الرأي العالمي، من خلال بثّها سرديّات، تسوّق لرواية أنّ إسرائيل الوديعة في خطر من محيطٍ شرسٍ معادٍ للساميّة – حسب زعمهم – يكره التعايش مع كيان مسالم كلّ ذنبه أنّه متحضّر ويسبح في فلك الحضارة الغربيّة.


هذا الواقع سوف يضع أمام إدارة الرئيس الجديد دونالد ترامب تحدّياً حقيقيّاً في تقديم المزيد بوقتٍ قد أصبحت الجعبة الأمريكيّة شبه فارغة، ولم يعد في طيّاتها شيئاً ذو قيمة مضافة ليقدّمه ترامب لنتنياهو الغارق في مستنقع من الوحول، ولم يعد يمتلك في وسطه غير القتل والدمار والتنكيل ومحاولات عبثيّة لرسم صورة انتصارات وهميّة، لا وزن لها في فرض معادلات الانتصار، طالما أنّ قوى المقاومة ما زالت صامدة ولديها القدرة على الردّ والمجابهة في الميدان، وصدّ أيّ توغّل برّي، ولديها القدرة على تهديد عمق الكيان وقصف أطراف تلّ أبيب عبر الصواريخ والمسيّرات التي طالت “بنيمينا وغرفة نوم نتنياهو”، وكلّ هذا شواهد على التصعيد الكمّي والنوعي والتقني في الجبهة.


ثمّ إنّ تحدّي ترامب مقيّد بأمريْن، الأوّل هو خطابه الذي يعبّر عن روح الأمركة والحدّ من الانغماس في الصراعات والتوتّرات الدوليّة والالتفات بشكل مركّز أكثر على ترميم بنية الاقتصاد والإنتاج وتحصين أميركا من الداخل، والثاني هو تصاعد المطالب الشعبيّة بالحدّ من الانخراط في نزاعات الشرق الأوسط التي بات دافع الضرائب الأمريكي يسدّد كلفتها من جيبه، وعلى حساب رفاهيّته ومستوى معيشته وقدرة دولته على تقديم الخدمات.


هذان الأمران سوف يدفعان بترامب للتفكير مليّاً بجدوى استمرار الدعم لشخصٍ مههوسٍ بالسلطة، يبتغي تحقيق مكاسب مرحليّة على حساب تدمير مستقبل كيانه استراتيجيّاً، ثمّ إنّ من لم يحقّق انتصاراً وحسماً خلال ١٣ شهر ونيّف، ماذا بمقدوره أن يقدّم للمفاوض الأمريكي من نصرٍ بارز يستطيع أن يترجمه له في السياسة ليفرض معادلات جديدة تخرجه بصورة المنتصر المستعيد لهيبته والمُمسك مجدّداً بمعادلة ردعٍ في المنطقة؟! علماً أنّ توازنات الإقليم الردعيّة دخل عليها لاعبين جدد أضافوا على المشهد الكثير من التعقيد، فدفعوا أميركا وإسرائيل للشعور بانسداد الأفق وفقدان الوضوح في استراتيجيّة تمكّنهم الخروج من هذا المستنقع.


ولا شكّ في أنّ نتنياهو الذي كان كلّ مرّة يهرب من معركة لأخرى في غزّة من مجمّع الشفاء إلى خان يونس ثمّ رفح، كان في كلّ مرّة يَعِدُ أنّها محطّة الحسم، وأنه سيحقّق الانتصار وتحرير الأسرى والقضاء على حماس، وإذ به يهرب إلى لبنان والضفّة الغربيّة بحثاً عن ماء وجهٍ مفقود، وأصبحَ يُطلق شعارات بهلوانيّة بعزمه تغيير الشرق الأوسط كلّه، في وقتٍ ما زال مستوطنو شماله مهجّرين، ولم يستطع أن يفرض سيطرته على قرية واحدة في جنوب لبنان، هذا كلّه سوف يكون مدعاة للسخرية والتهكّم على نتنياهو العاجز في الميدان وسوف يضعه أمام المساءلة، فكيف لمن لا يستطيع أن يحمي أمن مواطنيه أن يغيّر وجه الشرق الأوسط؟


في هذا السياق لم يعد لترامب ما يقدّمه لنتنياهو غير الرجال والعسكر، وأن يزجّ بفِرَق من الجيش الأمريكي في أتون معركةٍ بدأ الأمريكيّون يتذمّرون من دفع ضرائبها فما بالكم بدفع دمّ أبنائهم فيها، لذا لنتنياهو مهلة لربّما ستكون الأخيرة في الوقت الضائع، وعليه أن يحاول تحقيق مكاسب ميدانيّة تغيّر التوازنات، وتفرض المعادلات، وإلاّ لن يكون أمام ترامب غير إلزامه بوقف إطلاق النار بما تيسّر من ماء وجهه.

موقع سفير الشمال الإلكتروني