كان البعلبكيون، كلما غرقوا في وحل السّياسة، وكلما انسحقوا تحت وطأة التسيّب، وكلما أدارت الدولة ظهرها لهم، يقولون "نحن متروكون". وبالفعل انتهوا كذلك، تركوا حتمًا والسماء تُمطر عليهم صواريخَ، تركوا حتمًا في عراء سهلهم المحشور بين لبنان المنكوب وسوريا الشقيقة -الّتي صارت لدودة- والحال، أنّ أهل بعلبك، سيتذكّرون دومًا العام 2024 على أنّه عام النكبة. هم الذين كانوا يعتقدون أنّ أعوام النكبة لن تتكرّر، فقد نالوا حصتهم منها، ودفعوا فاتورتها غاليًّا. حتّى عاودت النكبة المجيء، وما كان ينقصهم إلّا شهرين من حربٍ كابوسيّة، كي يصل قدرهم الرهيب إلى منتهاه، حتّى تكبر حصتهم من القسوة بلؤمٍ أشدّ وخسارةٍ أكبر.
بعد يومين على بدء سريان وقف إطلاق النار، الهدنة الموصوفة بهشاشتها والتباسها، كان لا بد من زيارة بعلبك. كان لا بد لي من زيارة المدينة.طريق بيروت- بعلبك"هم منكوبون طبعًا". أستقل السّيارة من بيروت المكتظّة والمزدحمة، وفي رأسي هذه الجملة. أُسقط على أهل بعلبك هذه الصفة، وأُبالغ في التحنّن عليهم، لعلّي أصل إلى المدينة مُدرّعةً بتوقعاتي الكافكاويّة. بذلك ظنّنت أن مشاهد النكبة، قد تكون أخفّ وطأةً عليّ..
تشقّ السّيارة طريقها بين أرتالٍ من السّيارات المحشوّة بالفِرش والحاجيات والحقائب، صعودًا نحو الطريق الجبليّ المُجهد، والمطمور بهالةٍ ضبابيّة مُشعّة، في ضهر البيدر. حتّى اللحظة، الطريق سالكة، على نحوٍ مفاجئ، ولا مواكب احتفاليّة.. صمتٌ تامّ وخواء، لا يُعكّر صفوهما إلّا بعض الحافلات شبه الفارغة الّتي تمرّ بين الفينة والأخرى، ضاجةً بـ"أناشيد النصر" بطلاقة.
على جنبات الطريق، يمتدّ سهل البقاع بخضرته المتدرجة وبيوته الريفيّة المطمورة بشعاعٍ برسيمونيٍّ رقيق، يتسطح وينبسط كعادته كفسيفساء بهيّة لكن يثقبها عند كل بضعة أميال، حُفرٌ سوداء ورماديّة. الطريق الدوليّ غير المأهول، بدا مهملًا فوق إهماله، تنتشر القاذورات وأكوام النفايات من على ضفافه. وهذا ما يتبدى لاحقًا على امتداد الطريق الطويل والمترامي من بيروت نحو بعلبك.. على مشارف الفرزل باتجاه أبلح، تتنقل السّيارة، بين بساتين الكرمة والخضار. لونٌ بنيّ ضاربٌ نحو الإصفرار، يطوق البساتين الّتي كانت حتّى شهرين من الآن، مُخضّرة مُحمّلة بثمارها اليانعة. أولى مشاهد الدمار، تتكشف بتلالٍ من ركام المنازل.
ساعتان، وتصلّ بي السّيارة، إلى "النقطة الرابعة" الشهيرة في طليا، نقطة تمركّز الجيش اللّبنانيّ. في كل مكان ترتفع صورٌ ملوّنة لـ"الشهداء" من أبناء البلدة، وقادة حزب الله "المغدورين" والأعلام الصفراء واليافطات الّتي لم يُكتب عليها أي "تقدمات" كما تجري العادة، ذلك وصولًا إلى دورس المنكوبة بدرجةٍ مستحيلة. دورس البلدة الّتي تقع على حافة مدينة بعلبك الجنوبيّة، غابةٌ من الإسمنت المحروق، أرضٌ مستنزفة حتّى الرمق الأخير. عشرات المنازل والمباني سُويّت بالأرض، يُقابلها عشرات الحفر الغائرة. يتربص بدورس طيفٌ من الوجوم والرماديّة والقنوط، لم تنجح بهرجة اليافطات أو ضوضاء الأناشيد في اقتلاعه.
بعد دورس، أصلّ بعلبك. أصلّ بعلبك بعد شهرين ونيف، أخيرًا.بعلبك إذ تلتقط أنفاسهاالأرض باردةٌ ورطبة، بسبب الثلج الذائب الذي كان يغطيها منذ يومين، من أفقٍ إلى أفق. ريحٌ لينة وباردة تنساب ببطءٍ بين الزواريب والأحياء، صابغةً أنوف السّابلة الملفعين بكنزاتٍ صوفيّة سميكة، بحمرةٍ مزرّقة. السّماء مصدر ضياءٍ منتشر وموجود في كل مكان وكأنما الشمس الّتي سُميت على اسمها المدينة، قد ذابت في سديم وتحولت إلى هالةٍ لتحضن مدينتها، بعد مخاضها العنيف.
بينما أمشي من أمام مصرف لبنان إلى ساحة المطران، ينحسر غبار دورس وركامها الرهيب، وتطل أعمدة "جوبيتر" من خلف القبّة المذهبة. أقف أمام ركام مبنى "المنشيّة"، العمارة التراثيّة الملاصقة للقلعة والّتي تمّ استهدافها بكل اللؤم المتخايل. رقعةٌ من الدمار الذي وصل حتّى السّوق القديم، رقعةٌ من الغبار الرماديّ الّتي تُزنّر محيط القلعة، البصمة الجهنميّة الّتي أرخت بوطأتها على كل المباني التراثيّة العتيقة الّتي تحاذيها، من فندق "بالميرا" الذي أوصد أبوابه أمام الزوار لأوّل مرةٍ منذ عقود، وصولًا إلى مشارف السّوق نزولًا نحو وسط المدينة.
شذراتٌ من الزجاج الملّون، مزيجٌ من الأحمر القانيّ، والأزرق الكوبالتيّ والأصفر الكهرمانيّ، منثورةٌ على حصباء السّاحة، تتكسر على وقع خطوات المارّة. تولت إحدى السّيدات الّتي تملك محلًا تجاريًّا، كنسها، أمرّ أمامها وأتعثر بزجاجةٍ زرقاء. تقول لي بكل تؤدة ومن غير أن أسألها "الله، انتبهي ما تجرحي حالك"، تصمت وتقول باندفاعٍ سرعان ما بان عليها أنها ندمت عليه "انظري ماذا فعلوا بنا، والله ما منستاهل"، كرّرتها ثلاث مرات، ثمّ صمتت معاودةً كنس الزجاج.
أتفادى زيارة القلعة، أؤجل الزيارة. انزلق نحو السّوق القديم، دفقٌ من السّيارات الّتي تمشي بانتظامٍ رهيب، ولا أصوات أغانٍ حماسيّة أو أناشيد انتصاريّة –من يعرف بعلبك فيعرف أن ذلك غير مألوف– السّوق القديم شرّع أبوابه أمام المتبضعين، كل المحال وعلى أنواعها مزدحمة، لهفةٌ عجائبيّة للتبضع يُمكن رصدها، من السُبحات الملّونة مرورًا بلفائف الفلافل وفناجين القهوة وصولًا إلى الذهب. شوقٌ للحياة، شوقٌ للاستهلاك، شوقٌ للزحمة وإن كانت على مضّض.
أمام سنتر "اللقيس" القديم والمتداعي في نزلة العجمي، حيث تمّ استهداف مكاتب للقرض الحسن التابع لحزب الله وحيث يتجمهر السكّان لتنظيف المبنى وكنسه من الركام، تتسكع عصبةٌ من الكلاب الداشرة والمعطوبة، تنتظر أصحاب الملاحم في سوق اللحمة الشهير للتحنّن عليها ببقايا الذبائح. يقف إلى جانبها كهلٌ خمسينيّ، أطال شعره الرماديّ ويلبس ثيابًا أشبه بـالـ"كاو بويز" القدامى. يُحدّجني بغبطة، عندما اقتربت لأطعم الكلاب الداشرة لحمًا نيئًا، يدنو مني قائلًا "هول الكلاب بقوا بالمدينة وما هربوا، بقوا يحرسوها وانعطبوا، بس بقوا، ما تخافي قربي صوبهم ما بيعملوا شي، هذبتهم الغارات" يضحك وهو يمسد على رأس كلبٍ منهم.. سوق اللحامين، مزدحم حدّ الاختناق، يتهافت السكّان لشراء اللحومات المُخصّصة للشواء، وكذلك هي محال الحلويات العربيّة والدكاكين العتيقة.
أذرع زواريب المدينة، زواريبها الشعبيّة، زواريبها التراثيّة الثريّة، سوق اللحمة، سوق الخضار، السّوق القديم، سوق الملابس، أتدافع في سيلٍ من النسوة المتبضعات، متهاديةً على الأرصفة المكسورة وبين العربات المنتشرة.. صعودًا، أزور حيّ البساتين الذي جرى استهدافه عدّة مرّات، تطفو الفاجعة قاسيّة في الحيّ الذي يقطنه أبناء المدينة والقرى الّتي تجاورها. يمتشق بضعة رجال مجارف لإزالة الركام، نساءٌ يكنسن الأرض منتحبات. بنظرةٍ استهجانيّة ترمقني إحداهن، أقترب منها لسؤالها لتقول لي "شو بدي قلك، من كم يوم لقينا إيد بنت أختي هون ودفناها مع الأشلاء، بطل في شي ينحكى، الله يسامحن شو عملوا فينا". القلعة والانعتاقحان موعد زيارة القلعة المؤجل، استفقاد ما كنت وكان أهل المدينة، أشدّ خوفًا عليه. وهناك، وقفت أمام القلعة الّتي لا تزال واقفةً حجرًا وحجر، وفي قلبي امتنان يتعذر الإفصاح عنه. مفعمةً بالأسى والغبطة أمام أطلال المعابد البهيّة، أقف حيث تمتلئ السّماء بالحمام الأبيض، في سينوغرافيا مشهدٍ بديع. لحظةٌ من الانعتاق. بما يشبه الرقص الجماعيّ تتهادى وتموج أفواج الحمام فوق رأسي، لاهيةً في حضن سماءٍ مترامية، شديدة الزرقة، خالية من المسيّرات.
لم تكن بعلبك -وعلى عكس توقعاتي الكافكاويّة- ولا البعلبكيون منكوبين.
كانت بعلبك، لحظتها، وبعد يومين فقط من إعلان وقف إطلاق النار، بعد يومين فقط على انعتاقها من مصيرٍ رهيب، تطيّب جروحها وجروحنا، بصمتٍ وحياءٍ ورقّةٍ بالغة (من يطيب خاطرها المكسور؟). لا صوت، لا صورة، فقط فيضٌ شميّ طريّ ولا متناهٍ من اللحوم والحلويات العربيّة والبن والغبار والمازوت والأغنام وعرق الناس ورائحة التراب الرطب. وكأننا أدركنا –أنا والمدينة– وعلى نحوٍ مباغت، أن للحياة كما الموت، جذورًا في تربة العالم، ولن نتنهي إلى زوال.