الحرية... كلمة تحمل في طياتها الكثير من المعاني، فهي الحلم الذي راودنا منذ الصغر، والتطلع الذي كبر معنا مع الأيام. لطالما أردت التحرر من القيود، لكني أدركت متأخرة أن أعظم أنواع الحرية هو تحرر العقل من الجهل والخوف.
كنا، نحن السوريين، نكبر على مفهوم الوطن باعتباره الحضن الدافئ، والانتماء الذي يمنحنا الأمان، لكننا واجهنا واقعًا مختلفًا، فحُرمنا من مذاق الحرية، ووجدنا أنفسنا في قيود فرضت علينا منذ الصغر. تعلمنا أن نحب الوطن، لكننا لم نشعر بأنه ملكٌ لنا. وكما كنت مقيدة في بيت أهلي، حيث كل شيء كان ممنوعًا، ثم في الحياة الزوجية، كذلك شعرت أن وطني نفسه كان مقيدًا، فتمنيت له الحرية كما تمنيتها لنفسي.في بيت أهلي، كانت القوانين واضحة وصارمة: لا يُسمح لي بالخروج وحدي، لا يُسمح لي بارتداء ما أريد، كان رأيي مهمشًا، وقراراتي تُتخذ عني، فلم يكن يُنظر إلى أحلامي بجدية. كنت أريد دراسة الأدب، لكن عائلتي أصرت على تخصص "عملي"، لم أتمكن من الدفاع عن رغبتي، ولم أملك خياراً سوى الامتثال.ثم تزوجت. ظننت أني سأجد مساحة أكبر من الحرية، لكني وجدت نفسي رهن أصفاد جديدة. لم يُسمح لي بالعمل، لأن "مكان المرأة في بيتها". لم يُسمح لي باتخاذ قرارات تخص حياتي اليومية من دون استشارة زوجي، حتى زيارة عائلتي كانت تخضع لشروطه. شعرت أني أتحرك داخل دائرة مغلقة، حيث كل قرار يحتاج إلى إذن، وكل رغبة يجب أن تتناسب مع توقعات الآخرين. وحين جاء اليوم الذي أُعلن فيه تحرر وطني، لمحت أخيرًا بصيصًا من الأمل، لكني تساءلت: لماذا انتظرت كل هذا الوقت؟ لماذا ربطت حريتي بالعالم الخارجي؟ إن حريتي الحقيقية لم تكن يومًا هناك، بل كانت دائمًا بداخلي.أعود بذاكرتي إلى البدايات. كنت فتاة صغيرة تكتب خواطرها سرًا، تخشى أن يراها أحد أو يحكم عليها. لكني وجدت الشجاعة في داخلي، وبدأت أعبر عن أفكاري، شيئًا فشيئًا، حتى وجدت صوتي. لم تكن رحلتي سهلة، فأنا امرأة حملت مسؤوليات كثيرة، كنت الأم والأب لأطفالي، السند والحضن الدافئ لهم في مراحل حياتهم كافة. عشت حياتي كعطاء مستمر، بين متطلبات الأسرة والطموحات الشخصية التي أجّلتها مرارًا.لطالما حلمتُ بأن أصبح كاتبة، أن أُصدر كتابًا يحمل أفكاري، أن أدرس تخصصًا أحبه، أن أعمل وأحقق استقلالي المادي. لكني أخّرت ذلك كله بحجة الأولويات والمسؤوليات. حتى عندما سنحت لي الفرص، كنت أقيّد نفسي بنفسي: "ليس الوقت مناسبًا"، "أنا أمّ، ولا يمكنني التفكير في نفسي الآن"، "ماذا سيقول الناس؟"... وأدركت لاحقًا أن بعض سجني لم يكن مفروضاً عليّ، بل صنعته بيديّ.أتذكر صباحاتي المبكرة مع ابنتي، أراجع معها دروسها وأطمئن إلى فهمها حتى تحقق أعلى الدرجات. يذهب الأولاد إلى المدرسة، وقلبي يبقى معهم حتى يعودوا. عشت في دوامة من الطلبات والمسؤوليات التي أنهكتني، حتى أني لم أكن أستمتع معهم بلحظات طفولتهم كما يجب. رأيت في نجاحهم انعكاسًا لتعبي وسهري، لكني لطالما فقدت لحظات ثمينة لا تعوّض. كم من مرة تمنيت لو أني استطيع التوقف قليلًا لألعب معهم؟ كم مرة وجدتني منشغلة بتحضير وجبات الطعام أو ترتيب المنزل، بدلًا من مشاركتهم ضحكاتهم؟ ينقضي يومي بسرعة، وأنا في سباق لا ينتهي.كنت أستلقي بجانبهم قبل النوم، أروي لهم حكاية أو أغني لهم أغنية، لكن التعب يغلبني، فأغفو قبلهم أحيانًا. كنت أشعر بالأمان فقط عندما يكونون بين ذراعيّ، فالأم لا تشبع من رائحة أطفالها، تلك الرائحة التي ما زالت تعيش في داخلي، تمنحني السكينة والدفء حتى اليوم، عندما أغمض عيني أستطيع أن أسترجع شعور حضنهم الصغير ودفء براءتهم. وها هم قد كبروا لأرى نفسي في كل منهم، في حركاتهم، ضحكاتهم، وحتى في طريقة مشيهم. أصبحوا سندي ولو بكلمة أو ضحكة، وأدركت أن الزمن مضى أسرع مما كنت أتمنى. كم كنت أحب اللهو معهم، وكم كنت أتمنى أن يتوقف الوقت قليلاً لأعيش تلك اللحظات مجددًا. أدركت أن كل لحظة معهم كانت هدية، وكل ضحكة كانت جزءًا من رحلتي نحو النضج واكتشاف ذاتي.تحرّر وطني وبدأ بناء نفسه من جديد، وأنا أيضًا أسعى لأن أتحرر. لكن هذه المرة، ليس من القيود الخارجية، بل من القيود التي وضعتها لنفسي. كيف سأتحرر؟ بالعمل، بتوسيع مداركي، بكتابة قصتي، بالتوقف عن البحث عن موافقة الآخرين على كل خطوة أخطوها. سأتحرر بأن أختار نفسي أخيرًا، بأن أعيش الحياة التي كنتُ أؤجلها. لم يعد الانتظار خيارًا، بل أصبحت الآن أبحث عن ذاتي وأحاول منح نفسي الحرية التي حرمتها منها لسنوات.إنها رحلتي نحو الحرية التي بدأت أخيرًا، حرية أن أكون كما أريد، أن أعيش كما أحب، وأن أقدر كل لحظة بوعيٍ وسعادة.