في خطابه، أثناء افتتاح مؤتمر الحوار الوطني، تحدث الرئيس أحمد الشرع عن ملاحقة مجرمي العهد البائد وعن العدالة الانتقالية. وفي نص مكتوب لم يكن من المصادفة أن يتبع كلامه ذاك بالقول: "قد سعينا خلال معركة التحرير وبعدها لحقن الدماء، وعدم هدم الحواضر، واستعملنا في ذلك طرائق متعددة. وكل ذلك ليتسنى للسوريين أن يجلسوا مع بعضهم، ويعيدوا بناء بلدهم، ولعل البعض قد ساءه بعض هذه الطرائق. وكما قبلتم منا هذا النصر؛ أرجو متكرّمين أن تقبلوا منا طرائقه".وكان بعض الحاضرين قد نقل عنه قوله في لقاء له في طرطوس، أثناء جولة له على بعض المدن السورية، إن النصر تحقق هكذا بناءً على تسويات سياسية. مضيفاً، أن النصر كان حتمياً، لكن بكلفة أكبر لولا التسويات المُشار إليها. أيضاً، كان ذلك بمثابة ردّ على الذين يرون تقصيراً من السلطة في ملاحقة مجرمي الأسد، والذين يطالبون بحجم ونوعية من المحاسبة أكبر وأقسى من الإجراءات المُتخذة.
ضمن الإطار ذاته، كان الشرع (منذ إطلالاته الأولى بعد سقوط الأسد) قد أشار إلى التخلي عن منطق الثورة والتعاطي بمنطق الدولة. وهي إشارة لم تأخذ حقها من الاهتمام والتفكير، رغم ضرورة ذلك. لا لكونها صادرة عن رأس السلطة الجديدة فحسب، بل أيضاً لأنه الأدرى بكواليس النصر الذي تمّ على نحو لم يكن ليتوقعه قبل شهور أشد المتفائلين، أو حتى أكثرهم انفصالاً عن الواقع.من المفهوم أن نشوة النصر "الذي يكاد لا يُصدَّق" قد غطّت على كل ما عداها، ومن ذلك التمحيص فيما حدث، وبواقعية تتجنب التسييس المسبَّق، ومن ثم كيل الاتهامات. الأكيد، على سبيل المثال لا الحصر، أن القوى الدولية والإقليمية المؤثرة التي منعت من قبل سقوط الأسد قد سمحت بسقوطه، وأن الأخير بقواه الذاتية لم يكن قادراً على المقاومة، وهو بهذا المعنى ساقط منذ سنوات.
الخلاصة التي يجدر الانتباه إليها، والتمعّن جيداً فيها، أن حُكم سوريا ليس شأناً داخلياً محضاً، ومن يحكم (كائناً مَن كان) سيكون تحت ضغط توازنات شتّى. ويزداد بروز العامل الخارجي كلّما كان الداخل أقلّ تماسكاً، وكلما كانت الشرعية الداخلية ضعيفة. وبعد اندلاع الثورة، واعتماد الأسد المتزايد على الحل العسكري، كنا قد شهدنا توجهاً سورياً عاماً إلى توسل الدعم الخارجي، يبدأ من توسل الدعم العسكري ليصل إلى توسل الدعم الإغاثي. الخروج من الوضعية السابقة، على مستوى التفكير والواقع، يحتاج زمناً طويلاً، وجهداً لتحصين الداخل وعدم استعداء الخارج.واحد من البديهيات التي تدركها السلطة أنها، بحكم موقعها، تقود بلداً بأكمله، فلا تقود أنصارها فقط، ولا يندر أن تتضارب التزاماتها مع رغبات الشريحة الأشد حماسة من مؤيديها. حتى إذا تجاوزنا الأشد حماسة، قد لا تستطيع السلطة في وضع استثنائي الوفاء بالوظائف المعتادة، ومنها تطبيق القانون كما يشتهي كثر يريدون السير نحو العدالة. نذكر مثلاً العديد من البيانات التي وقّع عليها مثقفون وناشطون سوريون خلال السنوات الفائتة، طالبوا بها بمحاكمة كافة المتورطين في الانتهاكات على امتداد الأراضي السورية.
المثال الأخير يعيدنا إلى قول السيد الشرع: "كما قبلتم منا هذا النصر؛ أرجو متكرّمين أن تقبلوا منا طرائقه". فاليوم يكاد لا يخلو حديث في الشأن السوري من المطالبة بالعدالة، واعتبارها أولوية قصوى. إلا أن التطرق إليها يتحاشى طرح الأسئلة القاسية حقاً، والمركّبة بحيث لا يجيب عنها أي معيار من المعايير التي يُعتقد أنها من بديهيات العدل.واحد من الأوجه، غير العادلة نظرياً، انصراف الأذهان إلى مجرمي الأسد ما أن يُحكى عن العدالة الانتقالية، وكأنه ذلك أصبح موضع اتفاق من دون أن يُطرح للبحث ويُتفق عليه. لكن ما أن ننتبه قليلاً إلى الجدال العربي-الكردي حتى تطالعنا الاتهامات الموجَّهة من بعض العرب إلى قسد بارتكاب انتهاكات، والاتهامات الموجَّهة من أكراد إلى فصائل "غصن الزيتون" وسواها، وهي فصائل انضوت في السلطة الحالية، وتسلّمَ بعض قادتها مناصب فيها.
أما إذا مضينا أبعد في الزمن، فهناك اتهامات من المدنيين السوريين ضد كافة سلطات الأمر الواقع التي حكمتهم أو تحكّمت بهم خلال المرحلة الماضية. ثمة اتهامات ضد هيئة تحرير الشام وجبهة النصرة من قبل، وضد جيش الإسلام، وسواهما من فصائل صارت اليوم عماد السلطة أو جزءاً منها، ما يبتعد واقعياً بسؤال العدالة عمّا كان يُقال نظرياً قبل سقوط الأسد. لا ندري ما إذا كان هذا وراء قرار السلطات منع انعقاد ورشة عمل مغلقة تحت عنوان: "تطبيق العدالة في سوريا ودور الهيئات والمؤسسات الدولية". وكان من المقرر انعقادها بتاريخ 27 شباط في فندق شيراتون دمشق، وفوجئت المنظمات الأربع المنظِّمة لها بقرار المنع، والمنظمات هي: المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، والأرشيف السوري، ومؤسسة الشارع للإعلام، وملفات قيصر للعدالة.لدينا فجوة يمكن فهمها بين المؤسسات الحقوقية والسلطة، فالثانية تتعاطى بموجب التزامات ترى أن لها أولوية على العدالة، وتطالب بقبول ذلك تحت تسمية "طرائق النصر" التي تحتكر تقديرها حتى الآن. وما حدث واقعياً أنها طاردت بعض مجرمي الأسد، وتساهلت مع البعض الآخر منهم الذي يُنظر إليه على نطاق واسع بوصفه من رؤوس الإجرام، أو مقرّباً منها.
بعبارة أخرى، وبغياب المعايير المعلنة، يبدو تعامل السلطة مع ملف العدالة انتقائياً. إلا أنها انتقائية لا تبتعد عن انتقائية معمَّمة لدى معظم السوريين، حيث هناك فئات ضخمة بينهم تريد كلّ منها ملاحقة متهمين بعينهم، وغض النظر عن متهمين آخرين. والمقصود تماماً هو "غضّ النظر" لا العفو، فالأخير يتطلب اعترافاً بالجُرم أو إدانة قضائية، بينما يتجاوز التجاهلُ ذلك كله، ويطالب أصحابه فقط بمحاكمة الخصم، أي تكون المحاكمة للمجرم، لا على الجريمة.ثمة استعصاء في ملف العدالة، لا على مستوى الإمكانيات والإجراءات فحسب، بل أيضاً على مستوى التأسيس النظري. وكثرة المطالبات بإحقاق العدالة الانتقالية لا يوازيها حوار عام يؤدي إلى توافقات على مضمون العدالة المنشودة، وعلى الحدود التي تقف عندها العدالة، ليكون ما بعدها متروكاً للمصالحة الوطنية، حيث يُفترض أن تسير الأخيرة جنباً إلى جنب مع العدالة. هناك أيضاً على الصعيد الشخصي ما يُسمّى جبر الضرر، وجزء منه معنوي يتطلب الاعتراف للمتضررين بحقوقهم، وجزء منه مادي يتكيَّف بحسب الحالات ذات الصلة.
التمعّن في "طرائق النصر" يبدو ضرورياً للتفكير في ذلك كله، لكن الفائدة العمومية تتحقق عندما لا يبقى التفكير في الإطار الشخصي، وقائماً على التخمين والغموض. على العكس، قد يضرّ استمرار الغموض بمصداقية السلطة، بقدر ما قد يدفع إلى مطالبتها بأعلى من إمكانياتها الفعلية. لذا تبدو المصارحة، القاسية حقاً، بمثابة ممر إلزامي إلى الحد الممكن من العدالة والمصالحة معاً على مستوى البلد ككل، وهي أيضاً بمثابة استحقاق يزداد إلحاحاً مع الإعلان المنتظر عن الحكومة الجديدة.