لم يكد النظام السوري السابق بقيادة بشار الأسد ليسقط حتى شنّت إسرائيل أوسع الغارات والضربات التي زادت عن 300 غارة جوية وأدت إلى تدمير البنية التحتية العسكرية التي تركها النظام السوري، ومستودعات السلاح، والصواريخ الاستراتيجية ومراكز البحث العلمي والتصنيع العسكري. وأتت هذه الضربات الجوية على ٩٠٪؜ من المراكز الدفاعية والمطارات ومراكز البحث العلمي المتصلة بتلك المنشآت. ومنذ ذلك الوقت حتى اليوم، تواصل إسرائيل التوغل في كلّ الاتجاهات عسكريًا وسياسيًا.احتلال إسرائيلي جديد في سورياعسكريًا، ومنذ الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، احتلّت إسرائيل المنطقة العازلة بينها وبين سوريا، واستكملت السيطرة على قمة جبل الشيخ المعروف أيضًا بجبل "حرمون"، والواقع على الحدود بين سوريا ولبنان وفلسطين المحتلة. ويمتدّ جبل الشيخ من بانياس-الحولة إلى الجولان وصولًا إلى وادي الحرير، ويعدُّ أعلى نقطة على الساحل الشرقي للمتوسط. كما عمدت إسرائيل إلى توسيع نطاق عملياتها العسكرية في القنيطرة من حرش جباثا الخشب والتلول الحمر، بالإضافة إلى كتيبة الهاون بالقرب من بلدة عابدين في ريف درعا الغربي، حيث أقامت نقاطًا عسكرية ولا تزال متمركزة فيها حتى الآن. ومساء الثلاثاء 25 فبراير/شباط، شنت إسرائيل غارات على مواقع عسكرية في محافظات ريف دمشق ودرعا والقنيطرة وتوغلت برًا في بلدات عدة في درعا والقنيطرة. وقد سبق ذلك تحذيرًا أطلقه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يوم 23 فبراير/شباط، قال فيه "لن نسمح لقوات النظام السوري الجديد بالانتشار جنوب دمشق"، مطالبًا بإخلاء جنوبي سوريا، أي كل من محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء، ومؤكدًا أنّ إسرائيل "لن تتسامح مع أي تهديد للطائفة الدرزية". يعكس هذا التصريح نية إسرائيلية جلية للتدخل في الشأن السوري الداخلي، وسط تقارير تكشف عن مساعٍ إسرائيلية للعب على وتر التنوع الاجتماعي السوري لتكريس نوع من التقسيم يخدم مصالحها. ثم عاد يسرائيل كاتس، وزير الحرب الإسرائيلي، ليؤكد يوم الثلاثاء 25 فبراير/شباط أنّ العمليات العسكرية التي جرت هي "جزء من السياسة الجديدة التي حددناها لإخلاء جنوب سوريا من السلاح، والرسالة واضحة: لن نسمح لجنوب سوريا أن يصبح جنوب لبنان".تركيا توسّع نفوذها في سوريافي الرابع من شباط/فبراير 2025، زار الرئيس السوري أحمد الشرع أنقرة بعد زيارة إلى المملكة العربية السعودية. وفي تلك الزيارة بحث معه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان توقيع اتفاق دفاع مشترك يتضمن بناء قاعدتين جويتين لتركيا في وسط سوريا وتدريب الجيش السوري الجديد. يبدو لكل متابع أنّ لتركيا يد عليا في سوريا الحديثة وتعمل جاهدة على ضبط الأوضاع الأمنية فيها وتثبيت النظام الجديد من خلال استخدام كل قنواتها السياسية والدبلوماسية لهذا الغرض. كما تعمل أنقرة على استخدام نفوذها لدى الولايات المتحدة الأميركية وحلف شمال الأطلسي(الناتو) لتحييد حزب العمال الكردستاني عن التأثير هناك. وتأخذ تركيا بجدية رغبة إسرائيل في تقسيم سوريا أو بناء علاقات تحالفية مع الأقليات، كما أقرّ وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر. وبعد حادث جرمانا قبل أيام، اندفع نتنياهو وكل الحكومة الاسرائيلية للتحدث عن ضرورة حماية الدروز وعدم السماح للسلطة الجديدة بالتعرّض لهم، على رغم أنّ التطورات الأمنية في جرمانا في ريف دمشق في الأوّل من آذار/مارس قد جاءت نتيجة اعتداء بعض العصابات الدرزية على قوات الأمن العام السوري وقتل أحد عناصرها واعتقال ثانٍ. وعلى المستوى الكردي، من نافل القول إنّ اسرائيل تستثمر بالوجود الكردي المسلح والمعادي لتركيا لضمان عدم استقرار النظام الجديد. والجديد اليوم أنّ بعض وسائل إعلام اسرائيلية تتحدّث عن قنوات أعيد فتحها مع بضع مجموعات علوية في الساحل السوري للغرض نفسه.النفوذ التركي يؤرق إسرائيلتخشى اسرائيل أن يُستبدل النفوذ الإيراني بآخر تركي يكون أكثر تعمّقًا في المجتمع السوري المتواصل جغرافيًا وتاريخيًا وحتى عائليًا واجتماعيًا مع تركيا. ولعلّ تقرير ناغل الذي صدر يوم السادس من كانون الثاني/يناير الفائت، والذي دعا إلى ضرورة استعداد إسرائيل لمواجهة مباشرة مع تركيا يؤشر إلى مدى التحسّب الإسرائيلي. وناغل لجنة اسرائيلية تضم 14 خبيرًا ومسؤولًا سابقًا ذوي مناصب رفيعة في مواقع أمنية وحربية ويرأسها الجنرال الإسرائيلي المتقاعد يعقوب ناغل، رئيس مجلس الأمن القومي الأسبق. وبحسب التقرير، يمكن لطموحات تركيا لاستعادة نفوذها كما في عهد الإمبراطورية العثمانية أن تؤدي إلى تصاعد التوترات مع إسرائيل وتطوّرها إلى صراع بين الطرفيْن. ويحذّر التقرير من أنّ خطر تحالف الفصائل السورية الحاكمة مع تركيا، قد يشكّل تهديداً جديداً وخطيراً لأمن إسرائيل، قائلاً: "التهديد القادم من سوريا قد يتطوّر ليصبح أكثر خطورة من التهديد الإيراني"، إذ أنّ "القوات المدعومة من تركيا قد تعمل كوكلاء يعززون عدم الاستقرار في المنطقة". وفي تعليقه على التقرير، قال نتنياهو: "نشهد تغيرات جذرية في الشرق الأوسط. لطالما كانت إيران تهديدنا الأكبر، ولكن هناك قوى جديدة تدخل الساحة، ويجب أن نكون مستعدين لما هو غير متوقع".
إلى الآن لم تغيّر إسرائيل من طبيعة علاقات أجهزتها الأمنية والسياسية مع تركيا التي تراها تتعملق رويدًا رويدًا ليس في المشرق العربي فحسب، بل في أذربيجان وصولاً إلى ليبيا والصومال. وترى إسرائيل أنّ المحور الشيعي بقيادة إيران قد ضعف بشكل كبير، وهي تحتاج دائمًا وعقائديًا إلى وجود عدو جدي أو افتراضي كي تشحن جيشها وشعبها ودولتها كلها، وهي ترى في تركيا ذاك العدو الافتراضي لأسباب بعضها حقيقي بلا شك. فصعود نظام لصيق بتركيا في سوريا يدفع إسرائيل إلى محاولات التخريب عليه في كل مكان وطول الزمان، وقد تعاطى أردوغان مع الحرب في غزة، ولو نظريًا، على أنّها حرب إبادة وحرب ضد الإنسانية، فوصف نتنياهو في تموز/يوليو ٢٠٢٤ بأنّه "هتلر صغير يجب أن يساق إلى العدالة".الشرع يواجه تحديات متعددة المستويات يعيش نظام الشرع كلّ أنواع التحديات من دون استثناء، من تحديات اقتصادية في الزراعة والصناعة مرورًا بتحديات الخدمات من ماء وكهرباء وصولًا إلى تحديات إعادة الإعمار وتأمين ظروف معيشية مقبولة للناس. وفي خضم كل تلك التحديات، تبرز محاولات جر سوريا إلى تطبيع مع إسرائيل عبر ممارسة الضغوط القصوى الدولية والإقليمية.
إذ أشار تقرير نشرته وكالة رويترز في ٢٨ شباط/فبراير، نقلاً عن أربعة مصادر مطلعة، إلى أنّ إسرائيل تضغط على الولايات المتحدة لإبقاء سوريا ضعيفة ولامركزية، بما في ذلك من خلال السماح لروسيا بالاحتفاظ بقواعدها العسكرية هناك لمواجهة النفوذ التركي المتزايد في البلاد. ونقل التقرير عن مسؤول إسرائيلي في مركز أبحاث قوله "الخوف الأكبر لدى إسرائيل هو أن تتدخل تركيا لحماية النظام الإسلامي الجديد في سوريا، والذي قد يصبح قاعدة لحركة حماس وغيرها من الجماعات المسلحة".
وعلى رغم تصريحات الشرع أنّ سوريا لا تريد صراعًا مع إسرائيل أو أي دول أخرى، يعرب المسؤولون الإسرائيليون عن قلقهم من أنّ الحكومة الجديدة قد تشكّل تهديدًا خطيرًا، وأنّ القوات المسلحة السورية الجديدة قد تهاجم إسرائيل يومًا ما. كلّ هذا إنّما يندرج في محاولات أميركية وإسرائيلية قصوى لدفع سوريا ومن بعدها لبنان للانضمام إلى اتفاقيات أبراهام، وهو ما قاله مبعوث الرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط، ستفين ويتكوف بشكل مباشر.
إسرائيل تحاول تعطيل دور تركيا أو دفعها إلى ممارسة الضغط على الشرع للانخراط في اتفاق سياسي وأمني يعطي الدولة العبرية اليد العليا في المشرق العربي، بل في الإقليم بدوله الكبرى حتى مصر والسعودية وإيران وتركيا. من الصعب تصور خضوع الكلّ للإملاءات الاميركية والإسرائيلية، لكن ذلك قد يدفع المنطقة إلى مرحلة ارتجاج قد تبلغ صدامات. اللاستقرار هو عنوان المرحلة الحالية عسى ألاّ تطول وعسى أن تخسر اسرائيل رهاناتها.