لا يتوقف المشروع الإسرائيلي عند حدود ما "حققه" عسكرياً حتى الآن. ولا عند حدود فلسطين، سوريا ولبنان. هو مشروع قديم جديد، يشتمل على الرؤية الكاملة للوضع الإقليمي، والذي تسعى فيه إسرائيل لتكون الدولة الأكثر تفوقاً وتقدماً، وصاحبة اليد العليا على كل الدول المحيطة. وما تطمح إليه تل أبيب أيضاً، هو أن ترث "الدور" الأميركي أو تكون الجهة الوحيدة المنتدبة أميركياً لإدارة شؤون المنطقة والتحكم بها. أكثر الساحات تعبيراً عن حقيقة المشروع هي فلسطين وسوريا. ففي فلسطين يكرر الإسرائيليون من مواقفهم حول تهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة والضفة الغربية وإجهاض حلم بناء دولة فلسطينية مستقلة. وفي سوريا، يتحدث الإسرائيليون بوضوح عن "دويلات" طائفية ومذهبية، وتمزيق الجغرافيا السورية مع تسجيل اختراقات متعددة جغرافياً، أمنياً، وعسكرياً. أما لبنان فبطبيعة الحال سيكون متأثراً إلى حدود بعيدة بهذا المشروع.
نفوذ على كامل الإقليم
أبعد من هذه الدول الثلاث، فإن ما ينطوي عليه المشروع يمثل تهديداً جدياً لكل الأمن القومي العربي، ولكل الدول الكبرى في المنطقة، خصوصاً في ظل النية الإسرائيلية الواضحة لتهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن، وفي ظل مواجهة أي نفوذ عربي أو تركي أو إيراني. محاولة تكريس نفوذ إسرائيلي في سوريا يكون قائماً على الفوضى وإضعاف سلطة الإدارة الجديدة، له أكثر من بعد، ولا سيما ما يعبّر عنه الإسرائيليون وهو وضع حدّ لتوسع النفوذ التركي، وهو ما يدفع الإسرائيليين إلى التفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية، وروسيا من أجل بقاء القواعد الروسية، ما يجعل نفوذ تركيا أضعف وأكثر محدودية. أما إيران فلا يزال نتنياهو يصرّ على التصعيد في مواقفه تجاهها، وصولاً إلى شكر ترامب على توفير الأسلحة المطلوبة لإسرائيل من أجل ضرب المحور الإيراني. ولم يوضح نتنياهو مقصده من هذه العبارة، إذا ما كانت إسرائيل تكتفي بالضربات التي وجهتها لمحور إيران، أم أنه سيكون لها تبعات تتصل بضرب إيران بشكل مباشر. خصوصاً في ظل الوضع الداخلي الإيراني المتشنج، والذي ينطوي على انقسامات متعددة، بين الإصلاحيين والمحافظين، وبين المحافظين أنفسهم.
إنهاك إيران
أصبحت إيران أمام خيارات في غاية الصعوبة، أولها مواجهة أزمات داخلية سياسياً واقتصادياً بفعل اشتداد العقوبات، ما قد ينتج انفجاراً اجتماعياً وشعبياً. وثانيها مواجهة استحقاقات سياسية دولية تلزم طهران بتقديم تنازلات كبرى، وهذه التنازلات يمكنها أن تؤثر سلباً على بنية الوضع الداخلي للنظام. أما ثالثها فبقاء احتمال توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية قائماً. وهو ما قد يتعزز في ظل أي انسداد ديبلوماسي لا سيما مع تصريح الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، الذي أشار فيه إلى تبني خيار مرشد الجمهورية الإسلامية علي الخامنئي، بأن الحوار مع واشنطن لا يبدو مجدياً. وهذا لا ينفصل عن استقالة مستشار رئيس الجمهورية، وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، وهو المعروف بأنه أحد أكثر مؤيدي فكرة الحوار مع الولايات المتحدة.
عملياً، أصبحت الإدارة الأميركية تتدخل في كل التفاصيل السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية في كل هذه الدول، فلم يعد هناك وجود لأي فاصل بين الإدارة الأميركية والشؤون الوطنية لدى كل دولة من الدول. يمارس ترامب بلطجة هدفها تخويف الدول الأخرى لدفعها إلى تقديم التنازلات التي يريدها. وطبعاً يهدف من وراء ذلك للوصول إلى إشراك هذه الدول في مسار الاتفاقات الابراهيمية التي يريد استكمالها. كما أن هناك ضغطاً واضحاً يتصل بكيفية إعادة تركيب السلطة في كل دولة من هذه الدولة، ومعالم ذلك ستتضح لاحقاً.
تخريب سوريا
هذا الواقع هو ما تستفيد منه إسرائيل، والتي تسعى إلى تثبيت وقائع معينة، بالاستناد إلى موازين القوى التي تميل لمصلحتها في هذه المرحلة، لترجمتها عبر تحقيق أهداف سياسية. وهي تحاول استغلال ما تحققه عسكرياً بنسبة 70 بالمئة لترجمته سياسياً بنسبة 150 بالمئة. لذلك يستعجل الإسرائيليون فرض مسارهم، نظراً لاستشعارهم بإمكانية حصول أي تراجع في اندفاعة ترامب لاحقاً، أو حصول أي اهتزاز في وضع نتنياهو بالداخل الإسرائيلي. هذا الاستعجال هو الذي يدفع رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى التصريح العلني في السعي إلى تخريب سوريا وزرع الفوضى فيها، ولو اقتضى ذلك تقسيمها إلى كانتونات. كل ذلك لا يمكن أن ينفصل في تأثيراته عن الساحة اللبنانية. وهو ما قد يدفع الإسرائيليين إلى توسيع الانتشار أكثر في جنوب لبنان، وربط بعض المناطق ببعضها البعض، مثل ربط قرى الشريط الحدودي عسكرياً بالمستوطنات، وربط قرى في القطاع الشرقي مع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وصولاً إلى ربطها بالمناطق التي يسيطر عليها في جنوب سوريا. كما قد تتصاعد مجدداً الدعوات لإقامة منطقة عازلة في جنوب لبنان، وإطالة أمد الانتشار العسكري الإسرائيلي في تلك النقاط، وجعلها ورقة ضغط تُستخدم لاستدراج لبنان إلى اتفاقات سياسية.