في العام 1979، وخلال زيارته الى السويداء لتقديم واجب العزاء بشيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في سوريا، دخل الرئيس السابق لـ"الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط منزل الزعيم الدرزي سلطان باشا الأطرش في السويداء، حيث لاقى ترحاباً كبيراً. التُقطت صورة تذكارية للقاء، لكن أحد المصورين المرافقين لجنبلاط، اقترح أن الصورة تحتاج الى إضاءة، وطلب من الزعيمين التقاطها "في الضوء" خارج المنزل.
وحدث ما لم يكن متوقعاً. فحين دعا جنبلاط، مضيفه الأطرش، ليتقدمه بالخروج من المنزل، رفض سلطان باشا قائلاً: "نحن متفقون منذ مئات السنين، لا أحد يتقدم عليكم أنتم آل جنبلاط". تلك العبارة التي كررها توفيق سلطان أكثر من مرة عبر الإعلام، إضافة إلى دلالتها في الأدبيات المعروفة لدروز الجبل والتي تضع الضيف قبل أصحاب الدار، كانت إشارة أيضاً إلى دعم وتقدير من زعيم تاريخي كبير في سوريا والمنطقة، لحيثية جنبلاط السياسية والزعاماتية اليافعة، إذ لم يكن قد مضى سوى عامين على خلافة وليد في لبنان لوالده كمال جنبلاط الذي اغتاله نظام الأسد. ومن بعدها، توالت عقود حافلة، تخللتها حرب أهلية لبنانية طاحنة ونكبات فلسطينية متوالية، وضربات النظام السوري لأي دور سياسي أو حتى اجتماعي للمكونات السورية المختلفة بما فيها الدروز وزعاماتهم ذات الدور الريادي طوال قرون قبل استحواذ حزب "البعث" على الحكم. وذك خلافاً لوضع دروز لبنان الذين سمحت لهم التركيبة السياسة اللبنانية بالاحتفاظ بدَور وازِن وبِحِصّة من الحكم. وخلال العقود هذه، تغير أيضاً الكثير في شكل الحيثية الجنبلاطية ودَورها، كما في أحوال دروز السويداء ولبنان، وكذلك تماوُج الدور الجنبلاطي، لا سيما منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وصولاً إلى الثورة السورية في 2011 وسقوط نظام الأسد...
مواجهة مع نتنياهوهذه الرواية، تُستعاد اليوم، إثر التصريحات التي أدلى بها جنبلاط، على خلفية أحداث جرمانا. حذر من "مخططات تستهدف الدروز في المنطقة". بدا جنبلاط، من موقعه، أكثر إصراراً على تأكيد الدور العربي للدروز، ورفض المشاريع الاسرائيلية لدروز سوريا، برفضه الاعتراف بتمثيل شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في فلسطين المحتلة، الشيخ موفق طريف، معتبراً أن المرحلة الحاليّة أخطر من المراحل السّابقة، وهو ما أعاد تأكيد الامتداد العربي لدروز المشرق، وانحيازهم إلى الامتداد هذا رغماً عن الرغبات الإسرائيلية.
إن الكلمة التي ألقاها شيخ العقل في لبنان و الكلمة التي ألقاها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، و اللتان تحدّدان البوصلة الصحيحة للدروز ، و أنه لا خيار للدروز سوى الانتماء لعروبتهم و الاندماج في أوطانهم مع مجتمعاتهم، و عدم الانخراط في أية أجندة تتنافى و هذا الخيار، تستحق الإشادة و…
— د. حسين المؤيد (@hussenalmoyd) March 3, 2025
بعد 46 عاماً
وجنبلاط، في ثباته أمام "الموج الإسرائيلي العالي"، يستعيد اليوم دخوله دارة سلطان باشا الأطرش مرة أخرى بعد 46 عاماً، ويكرس دوره، ويسترجع مضامين الزيارة الأولى وخلفياتها. قرر أن يضطلع بمهمة الدفاع عن دروز سوريا، انطلاقاً مما تعلّمه واختبره خلال تجربته السياسية الطويلة، ومقتدياً بسلطان الأطرش. أي بتأكيد عروبة الدروز الذين يواجهون الفتنة والتفتيت والحرب الأهلية، وأن عمقهم سوري عربي، لا إسرائيلي.
على مدى العقود الماضية، لم يدّعِ جنبلاط زعامته لدروز المشرق، ولا انضوى الأخيرون بكُلّيتهم تحت لوائه، رغم أنه ربما طمح إلى ذلك في محطات كثيرة. كان دائماً جاهزاً للاحتفاظ بعلاقات طيبة مع "عظام الرقبة" كلها. سياسته، دعم خصوصية الدروز في مناطقهم تحت السقف العربي. بدءاً من التسعينيات، فَقَد "مَونَته" على دروز فلسطين الذين أخرجهم العامل الإسرائيلي، بالإكراه، من حياديتهم وخصوصيتهم. أخرج بعضهم من جذوره، بالأمر الواقع، وهو ما تحدث عنه جنبلاط بوضوح في موقف إعلامي سابق، يُعاد نشره الآن.
#وليد_جنبلاط pic.twitter.com/ALjZrd8Vo2
— Nora Joumblatt (@NJoumblatt) March 3, 2025
دروز فلسطينفي العقد الأخير، تغوّل رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في رسم مصائر دروز فلسطين، مستفيداً من موقف الشيخ موفق طريف الذي تنكّر له جنبلاط، يومي الأحد والإثنين الماضيين خلال مؤتمرَين صحافيَين. استسلم جنبلاط لهذا المتغيّر، ربما، لكنه لم يستسلم لإرادة نتنياهو بتحويل الدروز الى فوهة بندقية له. مخطط نتنياهو بات واضحاً، يعمل على ضرب المكونات وأدوارها. ومن غير المسموح له، حسب تحرك جنبلاط، أن يتمدد لضرب هوية الدروز السوريين الذين، في الوقت نفسه، ينتظرون ما ستؤول إليه تركيبة سوريا الجديدة ما بعد الأسد، ودورهم فيها، بما يحافظ على خصوصيتهم ويلبي احتياجات منطقتهم ويحترم تاريخهم، كوطنيين ومؤسِّسين لدولة الاستقلال قبل مئة عام، وكجماعة تعيد صَوغ نخبتها وقياداتها.
وليد جنبلاط أكبر من الحدود والسدود. وليد جنبلاط زاوج بين السياسة والثقافة والقراءة العميقة للتاريخ. وليد جنبلاط ما بيغلط بالثوابت♥️