استطاع حزب الله أن ينجح فعلاً في تحدي ملء الشواغر التي تسبب بها استشهاد عدد كبير من المسؤولين والكوادر. كل المواقع الأساسية تم ملؤها بكوادر "من أصحاب الكفاءة"، وعلى سبيل تصحيح خلل ماض، اعتمد حزب الله في هيكليته الجديدة "سياسة البدائل"، وتحسّب بتعيين بدائل في المواقع المهمة، لأن الضربة التي تعرض لها جعلته يعيد حساباته، فيعمد إلى تعيين نائب ثان وثالث حيث المراكز القيادية الحساسة. لسنوات طويلة سيبقى ما تعرض له حزب الله من خرق أنهكه بفقدان مجموعة من قياداته، خاضعاً للتحليل والقراءات المختلفة. كان مستوى الإطباق المعلوماتي عال جداً، وهناك تحقيق عميق وجدي وورشة عمل كبرى يخوضها حزب الله، لتقصي الثغرات والوصول إلى الخلاصات والعبر تفادياً للمرحلة المقبلة. كما يشهد عملية هيكلة داخلية تماشياً مع المرحلة المقبلة التي قد تختلف أولوياتها، وهي تتطلب تشكيل هيكلية خاصة لها.
مرحلة جديدةيدشن حزب الله مرحلة جديدة في مسيرته، تقوم على مراجعة شاملة وتشكيلات داخلية، عسكرية انتهت وأحيطت بسرية مطلقة حتى لأقرب المقربين، بينما لم تكتمل التشكيلات السياسية لنائب الأمين العام والمجلس التنفيذي، قيادة وأعضاء، ولو أن معالمها قد تكون أصبحت واضحة. مخاض عسير، يمكن القول إن حزب الله اقترب من تجاوزه. شكل تشييع أمينيه العامين، والمشاركة الشعبية الواسعة نقطة تحول، أعادت التحامه ببيئته واستنهاضها، بعدما كان الاحباط تسلل إليها بنسبة واسعة، خصوصاً مع فقدان الأمين العام. مشهدية التشييع أعطت لحزب الله أريحية الحديث باسم الطائفة، فيتفهم ما تعانيه ويتحسس أنها باتت اليوم مستهدفة أكثر من أي وقت مضى، موافقاً على أن المرحلة الراهنة ستختلف عما سلف، بحيث سيكون الثنائي كما الطائفة موضع تضييق على كل المستويات. وما تشكيل الحكومة إلا المثال على ما ينتظره في أيامه المقبلة.
في المرحلة الجديدة بات واضحاً أن العمل المقاوم لم يعد كما كان عليه في السابق. للحزب حساباته المختلفة، يدرس جدوى العمل العسكري في هذه المرحلة، من دون أن يعني ذلك أن موضوع المقاومة ثابت ويزداد أهمية خصوصاً في ضوء ما تشهده المنطقة من تحديات وتغيرات، تجعل الإيمان راسخاً لديه بأن لا ضمانات لأي طرف خارج ضماناته الذاتية، بدليل حركات المقاومة التي شهدها لبنان في حقبات زمنية مختلفة وما سبق وقاله السيد موسى الصدر الذي حث الناس على التصدي للمحتل، ومثله فعل رئيس المجلس الشيعي الراحل محمد مهدي شمس الدين، كما أن الشعب جاهز للقيام بدوره، وقد سبق الجيش والمقاومة في العودة إلى الجنوب وفتح لهما الطريق للدخول إلى القرى وتحريرها. يعتبر حزب الله أن غياب الدولة أوجد المقاومة. لكن ها هي هذه الدولة تعود تدريجياً بانتخاب رئيس وتشكيل حكومة، مما يفترض بحزب الله أن يسلم زمام المبادرة بشأن المواجهة مع إسرائيل إلى الدولة. كلام يوافق عليه حزب الله بالشكل لكن للمضمون حساباته.فترة سماح للديبلوماسيةبالنسبة لحزب الله، فإن الدولة لا تقاس فقط بالهيكلية بل بالنتائج، ولتعلن الحكومة انها ستنتقل الى العمل المقاوم في حال لم تنسحب اسرائيل وتعمل للدفاع عن السيادة.
يجري حزب الله جردة للتاريخ، تبين أن المقاومة ولدت نتيجة عجز الدولة. يعطي الفرصة للديبلوماسية في العهد الحالي ولكن التمسك بالسلاح "عند الشيعة" بات ضرورياً، ولو كان الجيش قادراً فهل كان سيحمل السلاح.
الحزب الذي يعترف بأنه أساء التقدير لنتائج الحرب الأخيرة ولم يتوقع حجم المواجهة من دول العالم، يرفض منطق الهزيمة أو القول إن حركات المقاومة لم تحمِ البلد. يعتبر أن الحرب هي حرب سرديات وسرديات مضادة. ليس صحيحاً أن المقاومة لم تكن ناجحة بدليل الحروب المتتالية في مواجهة إسرائيل ومن خارج تجربته كحزب الله، في الأعوام 1993 و1996 ثم التحرير عام 2000 و"النصر الالهي" عام 2006، الذي غيّر معادلات وفرض أخرى جديدة لحماية الأرض انتهت بترسيم الحدود البحرية.
بعد حرب 2006 أمضى حزب الله سنوات طويلة من دون عمليات ضد إسرائيل، لأن قرار أمينه العام في حينه أن دعوا الناس ترتاح. سيناريو مرجح للتكرار اليوم ولو أن العين على الجنوب وتنفيذ الانسحاب الاسرائيلي، لكن الكرة في ملعب ديبلوماسية الحكومة والدولة التي عليها أن تقوم بدورها في تحرير الأرض.
طوى حزب الله مؤقتاً صفحة المواجهة العسكرية، وسلم أمر التحرير لديبلوماسية الدولة ومنحها فرصة على سبيل فترة سماح، لكنه ضمناً لا يبدي اطمئناناً لسير الأوضاع في الدول المحيطة. سوريا التي أعلن رئيسها أحمد الشرع أنه لا يريد حرباً مع أي دولة جارة، لم تسلم من عدوانها، وليس أفضل حالاً منها الأردن ومصر وتزداد الأوضاع تعقيدا مع مجيئ دونالد ترامب. يرصد حزب الله تحولات دراماتيكية ترسم خريطة كبرى في الشرق الاوسط: الحزب الذي اختار لبنان وطناً نهائياً، لا يقبل منطقاً يقول إن السلاح لا يحمي الدولة. يتعاون مع الجيش في تطبيق القرار 1701. عقب حرب 2006 قام بتسليم مخازن أسلحة ضخمة للجيش. امتحان لبنان الصعب بالنسبة لحزب الله هو انسحاب اسرائيل من المواقع التي تحتلها والتي سمحت الولايات المتحدة ببقائها وأبلغت الدولة اللبنانية بذلك ولم تحرك ساكناً. متشائم حزب الله ويرى أن التطبيع الذي يروج له البعض ويطلب التماهي معه، وصفة تفجير جديدة للبلد. لكنه يشكك في امكانية القبول به أقله من قبل بعض الطوائف، ما يحمله على القول إن التطبيع لن يسلك طريقه إلى لبنان.
الحرب لم تنته بعد. إسرائيل لم تنسحب. المطلوب النيل من حزب الله وتطويقة سياسياً بعد الحرب. مرونة في التعاطي مع الداخل وعين على الخارج والديبلوماسية. شعار حزب الله لن يمنح إسرائيل فرصة جديدة. لن يسلم لسرديات الهزيمة. بداية التحول لحزب سياسي يمنح الفعل المقاوم إجازة لمراقبة تحولات المنطقة.