في الذكرى السنوية لوفاة الشاعر يوسف الخال في 9 آذار ننشر مقالاً له بعنوان "ثلاثون عاماً من الشعر: تجربة في الأخذ والعطاء". المقال غير معروف وربّما غير منشور في الصحافة. حصل الأب جاك أماتاييس السالسي، المتخصص في أدب الخال، على صورة عن المخطوطة من الشاعرة الراحلة مها بيرقدار، أثناء زيارته لها في غزيز بتاريخ 11 تشرين الأول 1994 برفقة السيد بهيج مالك. الجدير ذكره أن السالسي أصدر أخير كتاب (يوسف عبدالله الخال/ نصوص من خارج المجموعة- دار نلسن)
من يكتب تجربته في الشعر كمن يكتب سيرة حياته في أدق خصوصياتها وأعمق محتواها.
كنت في نحو العاشرة حين وجدت نفسي شاعراً. كانت الأبيات التي كتبتها منظومة بالسليقة، لكنها كانت لا تخلو من خروج على القواعد التي ضبطها الخليل بن احمد، فكما ان الشعر موهبة تولد في الانسان، كذلك موسيقاه. وهي غالبا ما تكون الموسيقى التقليدية المتوارثة. فهل يكون ان الشعر وموسيقاه أيا كان نوعها، لا ينفصلان؟ وهل جاءت صفة "الطرب" في الشعر عند السلف من هذا الزواج بين الشعر والموسيقى؟ وهل قامت القيامة على الحركة الشعرية الحديثة إلا لأنها دعت في جملة ما دعت، إلى تحرير الشعر من موسيقى تقليدية معينة طربت لها الاذن على مدى اجيال؟
وفي المدرسة كنت شاعر المدرسة، وفي الجامعة كنت شاعر الجامعة. واذكر اني عارضت في الخفية عن معلمي قصيدة دعت إلى معارضتها صحيفة في بيروت. ولما نشرت النتائج، فزت بجائزة وفاز معلمي بالتنويه. فكبر عليه الامر تجاه طلابه والاخرين، لكنه ظل يشجعني ويتوسم فيّ الخير ويجبر ما كان "ينكسر" في قصائدي الغزلية والوطنية من أعْمِدة الشعر.
ومرت فترة في نهاية سن المراهقة تركت فيها الشعر إلى النثر فالتحقت بالصحافة وانصرفت إلى المطالعة والاتصال بمن يكبرني من حملة الاقلام. فتعرفت إلى امين نخله، وصلاح لبكي، وبولس سلامة، والياس ابو شبكة، وفؤاد حبيش، ويوسف غصوب، ورئيف خوري، وتوفيق يوسف عواد، وخليل تقي الدين، وسعيد عقل، وسواهم ممن كانوا يتوسطون الحركة الادبية على عتبة الحرب العالمية الثانية وفي اثنائها. فتعلمت منهم الكثير، وتأثرت بأدبهم وكان في ذلك الحين جديدا. وحين عدت إلى الشعر وجدتني اكتب في المناخ الذي اوجدوه. وكان باكورة نتاجي الشعري "الحرية" ثم مسرحيتي الشعرية "هيروديا" من ثمار تلك الحقبة.
وفي اثناء الحرب عدت إلى متابعة الدراسة، فدخلت الجامعة وتخرجت منها. ثم التحقت بالجامعة مدرسا للعربية. وما اغراني التدريس، فتركته إلى الصحافة الأدبية حين رئست تحرير "صوت المرأة"، وكانت المجلة النسائية الوحيدة خارج مصر. وفيما انا في رئاستها سافرت إلى نيويورك في زيارة قصيرة، لكنها طالت سبعة اعوام. وهناك تعرفت إلى الاحباء من اعضاء الرابطة القلمية، امثال ايليا ابو ماضي وعبدالمسيح وندره حداد، واطلعت منهم ومن سواهم على الكثير مما كنت أجهله عن هذه الرابطة، وخصوصا عميدها جبران وكبيرها نعيمة الذي كنت على صلة به من قبل في لبنان. وكذلك اطلعت عن كثب على التيارات الشعرية المعاصرة في الآداب العالمية لاسيما الادب الانكلوسكسوني لالمامي بلغته ولوجودي في محيطه.-2-
كانت تلك المرحلة من تجربتي في الشعر، التي انتهت برجوعي من نيويورك إلى بيروت في 1955، حافلة بالأخذ أكثر من العطاء. وما ذلك الا لأني آثرت ان اغتنم الفرصة فاعمل على تعميق تجربتي في الحياة. فطالعت الكثير وخبرت الكثير على مستوى قد لا يتاح في أي مكان آخر في العالم. كنت على ذروة عالية أشرف منها على الناس والأشياء. هناك المدنية الصناعية الحديثة في اوجها، وفي وسطها مقر الامم المتحدة الذي عملت فيه اربع سنوات شهدت فيها النشاط السياسي الدولي على ايدي كبار المندوبين من معظم بلدان الأرض. وحين تقرر في الامم المتحدة الاعتراف باستقلال ليبيا، اوفدتني المنظمة ملحقا صحفيا للبعثة التي انشأتها لمساعدة هذه البلد العربي العريق على اعادة بناء كيانه الوطني، والقبض على زمام اموره، والسيطرة على مقدراته. وفي غضون عامين (1950-1952) رأيت ليبيا تنتفض من تحت أنقاض الاستعمار الايطالي الساحق، وتلم شتاتها، وتخرج إلى حيز الوجود الكريم دولة موحدة لشعب واحد وتطلع الى حياة افضل.
نعم، كانت تلك المرحلة حافلة بالأخذ اكثر من العطاء. من حيث الأدب عموما، والشعر على الاخص، وجدت ان التجربة العربية، في اعلى مستواها، تتخلف عن التجربة الانسانية المعاصرة نصف قرن من السنين، حتى لا اقول قرنا كاملا. وإذا كان الأدب مرآة الحياة، فالحياة العربية كانت، اذن، متخلفة عن سائر الشعوب المتحضرة هذا القدر من السنين.-3-
الشعر كالحياة تجربة لا تنتهي. ومن تنتهي تجربته الشعرية قبل موته، يكون كمن مات وهو حي يرز. والقول ان الشعر كالحياة يفترض القول ان الشاعر الذي تقف تجربته في الحياة أي ان الحياة لا تعلمه شيئا جديدا بعد، تقف تجربته في الشعر، أي يبقى يلف ويدور حول نفسه ناسجا كفنه بيده. فالشعر للشاعر حياة، بل هو الحياة. بدونه يذبل ويموت في مثلما يكون الموت.
والتجربة عموما، سواء في الشعر او في الحياة، لا يتساوى الناس في استيعابها وفهمها والافادة منها. فمن الناس من تمر عليهم التجربة مرور الماء على الزجاج، فاذا كان شاعرا، فهو شاعر تافه وعاجز. وهكذا كل إنسان. فالتجربة، اذن، هي الانسان. وقديما قيل: الانسان مجموعة تجاربه او خلاصتها.
واذا كان حقل التجارب مفتوحا امام كل انسان، الا انه تختلف هنا عن هناك. فهو لشعب من الشعوب والإنسان من هذا الشعب، غيره لسواهما. وهكذا يضاف، بالنسبة الى الشاعر، تفاوت التجارب الى تفاوت المواهب. والشاعر يسمو بقدر ما تحمله تجربته وموهبته. فهما جناحاه. ووكلاهما ضروري. فاي شأن لتجربة واسعة عميقة مع موهبة ضعيفة خاملة؟ وماذا تفيد الموهبة الشعرية الباهرة مع تجربة محدودة الأبعاد في العلو والعمق؟والتجربة فردية واجتماعية. فمن حيث انها فردية، فلا احد يشارك احدا فيها. فكل انسان يعيش لنفسه ويموت لنفسه. لا احد يعيش او يموت عنه. لذلك كان الفرد فذا، أي لا مثيل له. يرى حياته في الحية، ويرى ان انعدام الحرية يسلبه فرادته ويوحي له ان الذي سلبه حريته يريد أن يجعله مثل سواه. والإنسان يكره المثل ويصرّ على ان يكون هو هو، ولا شبيه له. فإذا تنازل عن بعض حريته، تنازل عنها طوعا لا اكراها، وتنازل عما كان من حريته لا يمس جوهر إنسانيته الفريدة الفذة.
ومن حيث ان التجربة اجتماعية ايضا، فإنها خاضعة لمزايا المجتمع. فهي في المجتمع الصناعي غيرها في المجتمع الزراعي. وهي في المجتمع المتحضر غيرها في المجتمع البدائي وهي في مجتمع فعل وتفاعل واندمج وورث حضارة الإنسان عبر التاريخ، غيرها في مجتمع على هامش هذا كله. وهكذا ينهض السؤال الكبير: هل يمكن ان يبرز شاعر في حضارة الانسان، في مجتمع على هامش هذه الحضارة؟ هل ينبت من العوسج تينا، او من العليق عنبا، كما جاء على لسان المسيح؟ أو كما قال المتنبي في كافور:من علم الأسود المخصي مكرمة
أقومه البيض أم آباؤه الصيد
هكذا نرى أن التجربة لا تقل عن الموهبة. وهي في صميم العمل الشعري. فحين نتكلم على التجربة الشعرية، إنما نتكلم على ما هو اعمق بكثير من محض الكلام على صناعة الشعر.
-4-
يبدأ الشاعر بتقليد سابقيه من كبار الشعراء، ثم يتدرج إلى التأثر بالتيار الشعري السائد. فاذا كانت موهبته اصيلة، تخلص من هذا التأثر على امره وبقي مهملا، لا يقدم ولا يؤخر في حركة الشعر. فالشعر في جوهره ابداع، والابداع ينطوي على خلق شيء جديد ينبثق من القديم المألوف ويضاف اليه في مسيرة التقدم والتطور ويخطئ من يظن ان الابداع خلق من لا شيء. فالله وحده هو الذي أبدع الكون من لا شيء. والشيء بالنسبة إلى الشاعر المبدع هو التراث - تراثه القومي الخاص به، وتراث الإنسان المتراكم عبر التاريخ. فمن ضمن هذا التراث يكون الإبداع الحق، ومن خارجه لا يكون ابداع على الاطلاق، بل تزييف وتشويه وافتعال لا يكتب له البقاء.
واذن، نحن في الشعر، كما في كل نشاط انساني، اما عملية تصاعدية مستمرة نابعة من تجربة شخصية في نطاق تجربة الإنسان المتراكمة في التراث الثقافي الخاص الذي هو أحد الروافد التي تنبع من الحضارة الانسانية الواحدة وتصب فيها. والشاعر الذي لا يفهم هذه الحقيقة ولا يعيها، كيف له ان يبدع شعرا يستجيب له الإنسان المعاصر؟
فمن صميم تراثه يجب ان يبدع الشاعر الاصيل، ومن شرفة الحضارة الانسانية الواحدة يجب ان يعاني مشكلات العصر. فكما انه وليد تراثه القومي، كذلك هو وليد الحضارة الانسانية من خلال هذا التراث. فلا انفصال ولا انفصام بل انتماء كامل غير مشروط. فشكسبير، مثلا، هو حضاريا لي بقدر ما هو تراثيا للانجليز. وهكذا قس.
فبغير ذلك لا نهضة ولا نهوض، سواء في الشعر او في سواه من وجوه النشاط الانساني. فالنهضة، في آخر الامر، هي نهضة من حالة التخلف إلى اللحاق بموكب العصر. وبذلك وحده تتم المساهمة في التقدم الحضاري والمشاركة في منجزاته.-5-
حين انطلقت نهضة الشعر العربي إلى الإبداع والمعاصرة، ظن الكثيرون، وما زالوا يظنون، ان أثرها يقتصر على تحرير الشعر من القوالب التقليدية بتفكيك الاوزان واطلاق القوافي من الجري على وتيرة واحدة. وهكذا تعير الشكل عند الكثيرين تغيرا سطحيا مفتعلا وبقي المضمون على حاله. ولأنه بقي على حاله خرج الشكل سطحيا ومفتعلا. فالمضمون لا ينفصل عن الشكل، بل هما متلازمان يعكس احدهما الاخر. والمضمون والشكل يعكسهما المفهوم الشعري المستند إلى عقلية ثقافية معينة. فإذا كانت هذه العقلية حديثة ومعاصرة كان المفهوم الشعري حديثا ومعاصرا. فلا يمكن ان يكتب الشاعر قصيدة حديثة معاصرة بعقلية الشنفري أو ابو تمام، أو حتى أحمد شوقي. وكيف لشاعر يعيش خارج هذا العصر ان يعاني في شعره تجربة هذا العصر؟ وكيف لشعر هذه حاله ان يكون صادقا وحقيقيا؟
وكثيرا ما طال الكلام على الالتزام، فأساء فهمه البعض واستغله البعض الآخر. وهذا الموضوع قديم، غير ان جان بول سارتر كان أول من وضعه في الواجهة الادبية واعطاه بعدا جديدا مستمدا من النظرة الاشتراكية (الشيوعية) إلى الادب والفن. وما من احد ينكر الالتزام بروح العصر ومشكلاته وهمومه، لكن الناظرين اليه بغير المنظار الاشتراكي يرفضون الالتزام والتوجيه وسلب الادب أو الفنان حرية في الرؤيا والتعبير عنها. وهم يرون ان الاديب أو الفنان المبدع الاصيل ملتزم، بحكم ابداعه واصالته، بهموم عصره ومشكلاته بدءا بهموم قومه ومشكلاتهم. فهو لا يحتاج الر من يقيده باتجاه معين مفروض، لئلا يسكت ان كان حرا كريما، أو يقع في الزيف والتفاهة ان كان صغير النفس ضعيف الإيمان بنفسه وبفنه او أدبه. هذا مع العلم ان المبدع الاصيل لا يكون إلا حرا كريما، كبير النفس عظيم الإيمان.
ولطالما اطلق دعاة الالتزام الموجه المفروض مقولة "البرج العاجي" نقيضا للالتزام. وهي مقولة فارغة من أي معنى، في ضوء ما ذكرناه. وهو ان المبدع الاصيل ملتزم بطبيعته، والا كان غير مبدع وغير اصيل. وإنما الخلاف في الامر يتناول النظرة إلى الالتزام: هل يكون مفروضا ام غير مفروض؟ ولعل الداعين إلى الالتزام المفروض لا يثقون بالإنسان كانسان، ناهيك بالإنسان كأديب أو كفنان. انه الموقف "الفوقي" الذي يربط عجلة التقدم والخير بمشيئة نخبة اقامت نفسها، بهذه الطريقة أو تلك، قيما على حركة الحياة وسير التاريخ.
ومن المزالق التي تعرض لها التفكير العربي، يعدون بعض التيارات السائدة في زمننا، حبل الموقف "الفوقي" مقترنا بالموقف "الثوري"، بل معادلا له: أنت "ثوري"، اذن أنت "فوقي". وهذا ينطوي على الاعتقاد ان الجماعة، كجماعة، لا تعرف صالحها. وانما الذي يعرفه، فهو سيدها أو مجموعة من اسيادها. وهكذا تصبح الجماعة قطيعا من الماشية تتبع راعيها أو رعاتها بصمت واستسلام، والويل لمن يتردد او يضل. ومهما قيل عن حرية النقد والحوار وضرورتها، يبقى هذا القول، والجماعة هذه حالها، مشروطا بالخضوع الى الرأي "الفوقي" المرسوم.
ومآسي مثل هذا التفكير كثيرة. يكفي ان اذكر منها ان "الثورة" التي تنطلق من ضمير الجماعة في سبيل تغيير الواقع نحو الافضل، تصبح اسيرة ذاتها، وفريسة للأقوال والأفعال العابرة، وحليفة حقيقية للقوقعة والجمود.
وهكذا كانت حال الشعر.
-6-
وفي سنوات تجربتي في الشعر أيقنت أن الشعر اشرف ما تصوغه الكلمات، وان الشاعر لا يكون شيئا اذا تخلى عن دور الاستطلاع والتجديد. فهو الذي ينفذ بعين بصيرته والهامه وحدسه، قلبا وعقلا، الى ما وراء الظواهر الانية العابرة ليكشف عن الحقائق الازلية التي هي وحدها أساس كل تغيير نحو حياة أفضل - حياة تهيء للمظلومين والمضطهدين والمسحوقين والمحتاجين أسباب الحرية والكرامة والأمان. فمتى يحسب ان الشعر كلام موزون مقفي، غايته "الهز" والطرب والاستمتاع الحسي، يضلا ضلالا بعيدا. او يحسب ان الشعر غرضه استثارة الهمم في الحروب، والغناء في الأفراح والعزاء في الاحزان (كما قال شوقي)، والتزمير وقت النصر او النواح والعويل وقت الهزيمة، لا يعرف عن الشعر شيئا.
ولعل هذا التقدير المتزايد للشعر هو الذي جعله في ايامنا قليلا وعسيرا وغامضا بعض الشيء غموض النبوءة. ونحن في العرب ما اجهلنا في الناس حين نكتب الشعر او نتقبله ثرثرة، وحماسة وتعبيرا مسجوعا اجوف، واداة لبث اللواعج الخاصة والخطرات العابرة والتجارب العادية المألوفة. نعم، وما ابعد شعراؤنا (وعلى رأسهم معظم الذين تعلقوا بقافلة الحركة الشعرية الحديثة) حين يطيلون القصائد رغبة في الاطالة، تماما شأن المطولات والمعلقات، وحتى يكومون الصور والتشابيه والافكار والاحاسيس، بعضها فوق بعض، على نحو يذكرنا بالقصيدة التقليدية التي يحتوي كل بيت منها على فكرة او صورة بيانية لفكرة، مما يجعلها مجموعة قصائد في قصيدة واحدة.
وهكذا بقي الشعر العربي، رغم ظواهر التجديد السطحية عند معظم الشعراء، يرزح تحت رواسب القصيدة التقليدية، بل لعله سلبها بعض محاسنها وزاد في مساوئه.
فالقصيدة، في المفهوم المعاصر، بناء فني متكامل لحدث ذاتي في لحظة الرؤيا والاكتشاف. هذا الحدث قد يولد قصائد عديدة، لكنه في تلك اللحظة لا يولد الا قصيدة واحدة تتناول أحد جوانبه وتعمل على تفسيره، وسبر غوره، واكتناه مدلوله في التجربة الانسانية. والوسيلة الى هذا كله اللغة. باللغة تصير القصيدة قصيدة، لا شيء آخر. ولكل قصيدة لغتها، أي صورها وتشابيهها وما الى ذلك من خصائص الفن الشعري. وهي مسرفة في الاقتصاد، فلا تعطف صورة على صورة او تشبيها على تشبيه او فكرة على فكرة. وهي بذلك تتوخى الضغط الذي يفجر الكلمات تفجيرا يوسع أبعاد المعنى، فلا يكون مألوفا وعاديا ومبتذلا. لذلك كان الشعر حياة اللغة، أي العامل على تجديدها بالحذف او بالإضافة.
في ضوء هذا المفهوم، تكون معظم القصائد العربية، قديما وحديثا، مجموعة قصائد في قصيدة واحدة تنوء تحت عبء الثرثرة التي تمنع التفجر وتبقى الكلمات جسدا لا روح فيه. واذا اضفنا الى ذلك كثرة السجع المنظوم افتعالا للنغم، شد النعوت والأوصاف سترا للعربي العقلي والروحي، اتضح لنا عمق النكبة التي نزلت بالشعر العربي في السنوات الاخيرة.-7-
ونحن، ولا شك، في صراع مع واقعنا كعرب، وفي ازمة روحية اسوة بسائر البشر في زمننا الحاضر. والازمة الروحية هي اساس الازمات كلها. فحين تضعف الروح، اية قوة تبقى للجسد؟ وعبثا صعودنا الى الكواكب اذا كانت الارض تنهار تحت اقدامنا. وحين يكون الانسان نفسه - لا الخالق - هو الذي يهب حق الانسان الاساسي في الحرية، فكيف لا يجوز له ان يسترد ما وهبه؟ واذا كان حاكمك ربك، فالى من تلجأ وتشتكي؟ واذا الانسان بقدرته على ان يصنع الفردوس على الارض، فكيف لا يحلل في هذا السبيل كل حرام؟ وكيف لا يظلم ويقتل؟ وكيف لا يحسب كل شيء، حتى الانسان نفسه، وسيلة لتحقيق ذلك الرجاء الالهي الذي استأثر به البشر؟
ونحن في صراعنا مع واقعنا كعرب، نجد انفسنا معزولين لا معين لنا الا المنافع المادية التي يطمع بها الاخرون. فالشراكة الروحية والعقلية - أي الشراكة في حضارة الانسان - لا تربطنا بقوى عالمية تهب الى نجدتنا بدافع الغيرة على قيم تعتبر زوالها خطرا على مصير الانسان. هكذا كانت حالنا في الماضي، وهكذا هي حالنا اليوم: اعتماد في علاقتنا مع العالم على القوة وتبادل المنافع، جاهلين ان علاقة كهذه تعطي بيد وتأخذ باليد الاخرى. وما من احد ينكر فضل القوة وتبادل المنافع في العلاقات البشرية، فرديا وجماعيا. غير ان الاكتفاء بهما وحسبانهما السبيل الوحيد الى الامان والاطمئنان والشراكة الحقيقة في الفعل الحضاري ومنجزاته، ما هو الا موقف غارق في العبث والبطلان.
واذا كنا نصارع واقعنا لتغييره، فللشعر دوره الممتاز في مثل هذا الصراع. انه المنارة التي تضيء مجاهل الطريق، شرط ان يكون الشاعر حرا ولو تعذر وجود الاحرار. ذلك لان الشاعر هو الضمير والوجدان، فاذا اختنق صوته الفردي قل على الجماعة السلام.