كثرت التحليلات والتنظيرات عن مستقبل حزب الله والمقاومة قبل أن تبدأ حرب الإبادة الإسرائيلية في أيلول 2024 وخلالها وبعدها، وجاء بعضها على شكل نصائح أطلقها “حريصون” على الحزب وخوفاً على الشيعة ودورهم في لبنان ضمن التركيبة الداخلية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وبنى هؤلاء مقولاتهم استناداً إلى خلاصة أمريكية سوّقت لها سفارة عوكر في الصالونات اللبنانية مفادها أن الحزب قد انتهى كوجود تنظيمي ومؤسساتي وأن المقاومة لن يكون لها مكان في خارطة التحوّلات التي تجتاح المنطقة في ضوء الاجتياح الأمريكي العالمي في عهد دونالد ترامب وما يرافقها من إطلاق اليد الإسرائيلية لاستباحة كيانات المنطقة بأشكال مختلفة.
في المقابل يبدو أن الحزب انكبّ فعلاً على دراسة نتائج الحرب في وقائعها الميدانية وأبعاد نتائجها المؤثرة على متغيّرات المشهد الداخلي في مستوياته السياسية والعسكرية والأمنية وتردّداتها الاقتصادية والاجتماعية، ليس على المقاومة وبيئتها وعلى الشيعة فحسب بل على مجمل الساحة اللبنانية بما فيها من تعقيدات وتشابكات ونقاط التقاء وافتراق مع الأطراف المختلفة، فضلاً عن تحليل التموضعات المستجدّة لهذه الأطراف ومدى قربها وابتعادها عن الحزب وخياراته ورؤاه وقناعاته حول لبنان الدولة ودوره على مستوى القرار العربي من جهة، وموقعه في دائرة الفعل ورد الفعل إزاء ما يُطرح من مشاريع بشأن التسوية والتطبيع والعلاقة مع “إسرائيل”.
وفي هذا السياق يبرز اتجاهان متقابلان في رسم آفاق المرحلة المقبلة، الأول ينزع باتجاه دفع الحزب والمقاومة إلى التسليم بالهزيمة أمام “إسرائيل” والنظر إلى مستقبل المنطقة وتطورّاتها المتسارعة بعين الواقعية، وأخذ العبرة مما جرى في قطاع غزة من إبادة شاملة وما سيلي من تهجير منظّم لهم قد يطال الضفة الغربية أيضاً ما يهدّد مصير الفلسطينيين وقضيتهم وأخذهم إلى المجهول في ظل غياب القيادة الحاسمة لديهم، ولا يجدر إغفال تأثير السقوط الدراماتيكي لحكم آل الأسد في سوريا وما يمكن أن تفرزه من مستجدّات نتيجة تداخل القوى الإقليمية والدولية وتصارعها على الساحة السورية.
ويدعم أصحاب هذا المنطق نظريتهم بواقع التشظّي الذي يضرب الجسم العربي أمام ما تطرحه إدارة ترامب من حلول قد تؤدي إلى إعادة رسم خارطة المنطقة العربية برمّتها وتدوير أنظمتها لصالح توسّع الهيمنة الإسرائيلية، وبذلك لا يعود أمام الحزب إلا الانحناء أمام العاصفة والتخلّي عن الخيار العسكري كأداة لم تفلح في حماية لبنان أو ليّ الذراع الإسرائيلية ومنعها من استهداف المناطق اللبنانية في وقت تحتاج البلاد إلى هدنة مفروضة يقوم فيها العهد الجديد بلملمة أطراف الوطن وبناء مسارات الاستقرار استناداً إلى مبدأ الحياد واعتماد الدبلوماسية في تحرير الأراضي المحتلة وتحرير الأسرى وضمان عدم الاعتداء، مع ما قد يستوجب ذلك من مقاربة جديدة “للنزاع مع إسرائيل” تقوم على مبدأ نزع الذرائع بوقف الأعمال العسكرية ضدها، ولا يكون ذلك إلا في القبول السلمي بنزع سلاح المقاومة والاكتفاء بممارسة العمل السياسي.
أما الاتجاه الثاني الذي يعبّر عنه حزب الله فيرفض كل ما ساقه الاتجاه الأول من مسوّغات تهدف جميعها إلى إسقاط عوامل القوة التي يمتلكها لبنان من خلال وجود المقاومة وسلاحها، ويستند في ذلك إلى أن “إسرائيل” لا تعير اهتماماً أو قيمة لما يسمى “ذرائع” حتى تكفّ عن الاعتداء على لبنان أو ترتدع عن مشاريعه التوسعية، فإن أصل وجود هذا الكيان قام على أساس القتل والدمار والتهجير لفلسطين وشعبها، ولم تستثنِ لبنان أو مصر أو سوريا وغيرها من الدول العربية من اعتداءاتها على مدى أكثر من مئة عام، فهي أقيمت في الأصل لخدمة المشروع الاستعماري الغربي الذي يهدف إلى السيطرة على المنطقة العربية والإسلامية، ولم تنطلق المقاومة إلا كردّة فعل على عدوانها المدعوم أمريكياً والمستمر والمتمادي بحق الشعوب العربية، وما يجري في سوريا اليوم وما تكشفه مواقف مسؤولي العدو وما تحدث به ترامب نفسه يؤكد أن “إسرائيل” ماضية في احتلالها وعدوانها وتوسيع دائرة هيمنتها تحقيقاً للوعد التلمودي المسمى “إسرائيل الكبرى”.
من جهة ثانية فإن ثمانية عشر عاماً من الأمن والاستقرار في لبنان بفعل معادلة الردع التي كرّستها المقاومة منذ العام 2006 استغلّتها “إسرائيل” لوضع مخططها العدواني سعياً لضرب المقاومة واغتيال قادتها وكوادرها، وما يسوقه أصحاب الاتجاه الاستسلامي من ادّعاء بأن المقاومة الفلسطينية هي التي بادرت بـ “طوفان الأقصى” لا يستقيم في ميزان المنطق والعقل، فمن حق الفلسطينيين الذي يعانون الاحتلال والحصار والعدوان منذ العام 1948 حتى اليوم أن يمارسوا فعل المقاومة لنيل حريتهم وتحصيل حقوقهم المسلوبة، ولعلّ ما قامت به المقاومة الفلسطينية كان عملاً استباقياً لمخطط عدواني كان يستهدف محو قطاع غزة والقضاء على حركات المقاومة فيه والانتقال بعده إلى لبنان وفق ما كشفته تصريحات مسؤولي العدو أنفسهم.
ولعلّ امتزاج الدم بين المقاومة والجيش اللبناني على جبهة الجنوب وفي مواجهة المدّ التكفيري خلال معركة الجرود برهان أكيد على امتلاك لبنان عوامل القوة التي تمكّنه من تحصين كيانه، فيما يبقى على الدولة أن تحسم قرارها السياسي لجهة تحريره من الضغوط الأمريكية والتهويل الإسرائيلي والتمسّك بسلاح المقاومة إلى جانب الجيش اللبناني فضلاً عن التفاهمات الداخلية الضرورية، وقد أبدى الحزب في أكثر من مناسبة استعداده لبحث أي استراتيجية تحت عنوان الدفاع أو الأمن الوطني لردع أي عدوان على البلاد وهذا حق سيادي تكفله المواثيق والشرائع الدولية، وقد دلّت التجربة أن “إسرائيل” لم تلتزم يوماً بأي ميثاق دولي ولم يردعها أي قرار عن ممارسة جرائمها متسلّحة بالفيتو الأمريكي.
أما ما يحكى عن اعتماد العقلانية في التعامل مع التهويل القادم وتبنّي الخطاب الأمريكي – الإسرائيلي بنزع سلاح المقاومة، فإن تجربة أفرقاء الداخل مع الأداء السياسي والمؤسساتي لحزب الله وفي الحكومة والمجلس النيابي وكذلك في علاقاته مع الأحزاب والتيارات المختلفة، وحتى في تعاطيه الشأن الاجتماعي والإنساني مع مكوّنات الشعب اللبناني بأسره، يثبت قناعاته الوطنية وإيمانه بأولوية النهوض بلبنان وحماية مقدّراته وثرواته وصيانة استقلاله والدفاع عن حدوده ضد المحتل الإسرائيلي، وهذا النهج الوطني سيستمر في المرحلة المقبلة لتحصين الموقف الداخلي أمام أي هزة طارئة وإنجاحاً لتجربة العهد الجديد مع الرئيس جوزف عون.
The post ما هي اتجاهات حزب الله في التعامل مع العهد الجديد؟.. وسام مصطفى appeared first on .