الدمار الذي خلفته الحرب في القرى الممتدة من الناقورة غرباً وصولاً إلى بلدة شبعا شرقاً، رسم جغرافيا جديدة لتلك المنطقة، التي كانت عامرة بالحياة. تضم هذه المنطقة 29 بلدة وقرية، منها 22 دُمّرت بشكل شبه كامل، وباتت منازلها مجرد أطلال وبات من الصعب التعرف على معالم القرى. المنازل سُوّيت بالأرض، والطرقات بلا معالم، والمقاهي والمتاجر، التي كانت تملأ الساحات، صارت ركاماً، مثلها مثل القصور الفخمة في ميس الجبل والخيام ويارون. والحصيلة النهائية هي أن أكثر من 22 ألف وحدة سكنية اختفت، تاركة وراءها سؤالاً وجودياً لأهلها: كيف نعود، وإلى أين؟
تثبيت حدود وملكية العقارعندما عاد السكان إلى قراهم بعد توقف العمليات العسكرية، وقفوا حائرين وسط الدمار، يبحثون عن أثرٍ لبيوتهم. اكتشفوا أن موطئهم تغيّر. باتت المساحات المفتوحة بلا حدود واضحة، والأراضي بمثابة كتلة واحدة بلا معالم تفصل ملكية عن الأخرى. في بعض القرى لم تعد حدود العقارات قائمة. وباتت بحاجة إلى إعادة ترسيم الحدود، مع كل ما يحمله الأمر من مشاكل على الملكية، لا سيما أن القرى الحدودية غير الممسوحة أو المفروزة عقارياً.اليوم، وبينما يُطرح ملف إعادة الإعمار، يطفو إلى السطح قلق آخر، لا يقل قسوة عن الحرب نفسها: من سيحدد أين كانت البيوت قبل أن تُمحى معالم وحدود العقار؟ زد على ذلك أن البيوت القديمة ليست فيها رخص عمار قديمة أو سندات ملكية. فماذا عن كيفية تثبيت ملكية البيوت والعقارات؟الأبنية ستُعاد كما كانتالقرى الحدودية التي دُمّرت بفعل العدوان الأخير تواجه اليوم تحديًا مزدوجًا: أولًا، في حجم الدمار الهائل الذي طال منازلها وبُناها التحتية. وثانيًا، في آلية إعادة الإعمار ومصير الأبنية التي سُوّيت بالأرض، سواء أكانت مرخّصة أم مخالفة. بين الخرائط العقارية التي تحفظ الملكيات، والإجراءات القانونية التي ستُحدد أطر الإعمار، يعيش الأهالي حالة من الترقب، وسط تساؤلات حول كيفية استعادة منازلهم وإعادة بناء قراهم. في المقابل، يحاول رؤساء البلديات تبديد المخاوف، مؤكدين أن العملية ليست معقدة كما يظن البعض، فالأرض حتى لو كانت غير ممسوحة فالملكيات محفوظة، والخرائط العقارية متاحة في الدوائر الرسمية.في كفركلا، حيث بلغت نسبة الدمار نحو 90 بالمئة يبدو رئيس البلدية حسن شيت حاسمًا في موقفه: "كل شيء سيُعاد بناؤه كما كان"، مطمئنًا الأهالي إلى أن المعلومات العقارية محفوظة في دائرة المساحة والدوائر العقارية في مرجعيون، ويمكن لأي متضرر الحصول عليها. يؤكد شيت أن الأبنية التي تهدمت ستُعاد كما كانت، حتى وإن لم تكن مرخّصة، إذ يُفترض أن يصدر قانون خاص من مجلس النواب يسمح بترخيصها ضمن إطار إعادة الإعمار.وحول الحديث عن عرقلة القوى الأمنية بناء بعض البيوت من دون رخص وذلك في انتظار إعادة الإعمار، ينفي شيت حصول أي أمر مشابه. ويؤكد أن الدوريات الأمنية تمارس عملها الروتيني المعتاد، وأنه يحق "للدرك الدخول إلى القرى والتأكد من عمليات البناء". لكن هذا لا يعني أن هناك قرارًا بمنع الإعمار. بل العكس "مسموح نعمر، وبدنا نعمرها"، يكرر شيت، مؤكداً أن إعادة البناء ليست محل نقاش أو تأجيل.
تغيّر معالم الأحياءالدمار في ميس الجبل وبليدا كان كبيراً وأدى إلى اختفاء معالم حدود العقارات. لكن رئيس بلدية بليدا حسان حجازي يرى أن "لا مشكلة في بليدا بكيفية إعادة تحديد العقارات. فالأراضي ممسوحة، والملكيات كلها موجودة في الدوائر العقارية والبلدية. "وكل الحدود بترجع متل ما كانت"، كما قال.الوضع مختلف في ميس الجبل وفق رئيس البلدية عبد المنعم شقير. ففي وسط البلدة "تغيرت معالم الأحياء، ومن الصعب معرفة حدود الأرض، خصوصاً في الأحياء القديمة". هنا تتراكم المصاعب، ولا شيء واضح وسط الركام الحالي. أما "خارج الحارات، فالمعالم لا تزال معروفة"، كما يؤكد شقير مقللاً من حجم المشكلة. فالحل يبدو معلقًا على انتظار الكشف وإزالة الردم، ثم العودة إلى الخرائط الجوية ومهندسين مختصين لإعادة رسم الحدود.في بلدة شقرا بدأت التعويضات تصل تباعًا إلى السكان عبر "جهاد البناء"، على أن يستكمل "مجلس الجنوب" لاحقًا دفع المستحقات، كما أكد رئيس البلدية إسماعيل الزين.ويؤكد الزين أن عملية التوثيق واضحة، فكل متضرر يقدّم إفادة عقارية أو مستند ملكية يثبت حقه في إعادة البناء. وفي حالات الملكيات المشتركة، يتم تسجيل العقار بأسماء جميع المالكين المدرجين في السجلات العقارية، إلا إذا حصل اتفاق بينهم على توزيع مختلف. "العملية ليست معقدة"، يكرر الزين.لكن ماذا عن الأبنية المخالفة؟ يجيب بحزم: "إذا كان البناء مطابقًا لما كان عليه قبل العدوان، فهو مشمول ضمن قانون إعادة الإعمار، أما المخالفات الجديدة فهي التي ستُمنع". ويوضح الزين أن القانون ينص على "إعادة إعمار البناء كما كان قبل العدوان"، ما يعني أن أي منزل دُمر بالقصف الإسرائيلي يحق لصاحبه إعادة بنائه كما كان، شرط أن يكون في الموقع نفسه، وأن يُسجَّل ضمن إطار قانوني واضح. الأمور ليست بسيطةهي ليست مجرد عملية بناء بقدر ما هي ورشة ضخمة تتطلب وقتًا، وتمويلًا، وإزالة ملايين أطنان الركام قبل البدء بأي خطوة. وعلى سبيل المثال، بعد حرب العام 2006، كان هناك معضلة مشابهة للوضع الحالي بما يتعلق بإزالة الردم. حينها اتُخذ القرار ببيع الردم مع الحديد. أما إعادة الإعمار اليوم فأكثر تعقيدًا. فحجم الدمار مضاعف مرات عدة ما يعني هناك حاجة لإزالة ردم مضاعف عن السابق ومواد أولية مضاعفة أيضاً. ولم يصار بعد إلى وضع أي خطة، بينما مصادر التمويل غير واضحة.
لكن العقبات لا تتوقف عند هذا الحد، فبحسب رئيسة الهيئة اللبنانية للعقارات، أنديرا زهيري، هناك مشاكل أكثر عمقًا: مناطق جبلية غير ممسوحة، تعديات على الأملاك العامة، أبنية مشيدة على المشاعات، غياب التحديد والتحرير الرسمي، وعدم وجود صكوك ملكية واضحة. "القصة معقدة، ليست سهلة أبدًا. مجرد الحصول على إخراج قيد قد يستغرق شهرين، فكيف بتحديد ملكيات وسط هذا الدمار؟" تقول زهيري، مشيرة إلى أن أي بيانات محفوظة إلكترونيًا قد تسرّع العملية، لكنها ليست متاحة للجميع.المعضلة الأكبر تكمن في أن بعض الأهالي تركوا منازلهم مع بداية الحرب من دون أن يأخذوا مستنداتهم، فيما أُتلفت ملفات عقارية داخل المراكز الرسمية التي دُمّرت أيضًا. لأول مرة في لبنان، يُمحى هذا العدد الكبير من القرى دفعة واحدة، بما فيها حدود العقارات التي كانت تفصل الأراضي والممتلكات عن بعضها البعض."المطلوب اليوم إعادة رسم الحدود من الصفر"، تقول زهيري، مشددة على أن الخرائط الأصلية قد لا تكون كافية، ما يستدعي اللجوء إلى المسح الجوي والأقمار الاصطناعية لتحديد المساحات والملكيات.هذه العملية ليست فقط معقدة، بل محفوفة بالإشكالات القانونية، خصوصًا في ظل تعديات قديمة زادت الأمور تشابكًا. من هنا، الحاجة إلى مقاربة جديدة تعتمد التنظيم المدني، وبالتعاون مع البلديات، بحيث لا يتحول الإعمار إلى فوضى تكرّس المخالفات بدل تصحيحها". المسألة تحتاج إلى وضوح، وليس إلى تبسيط الأمور وكأن العودة إلى ما قبل الحرب ستكون سريعة وسهلة"، تختم زهيري، داعية رؤساء البلديات إلى مصارحة الأهالي بالواقع بدل إعطائهم وعودًا غير محسوبة.