تستحيل مقاربة مسألة بحجم الجرح السوري من دون الوقوع في الزلل. فلكل منّا حكاية ألم ينتظم عقدها ضمن قصة أكبر وقعت على الجماعة التي ينتمي إليها. وهي لم تكن سرديّات مظلوميّة فحسب، بل امتزجت آلام السوريين مع ما رسمه الخيال السياسيّ من صورة للآخر، إذ عزّزت السلطة السابقة هذه الصورة عبر مفارقات دينيّة وحكايات تاريخية تشيطن الآخر وتلغيه أو تلغي سلالته. وهي بذلك تعدم فرديته ليبقى ضمن قطيع يعاقب جماعياً على ما يرتكب فرديًا. ورغم أن غالبية تلك الروايات مشكوك في صحتها ولا تحمل قيمة تاريخيّة، لكن إضفاء هالة من القداسة عليها جعل الماضي يتسلل كوَرم إلى حاضر السوريين فيصادر مستقبلهم. فمعظمهم لا يعرف رموزه الوطنية ولا محطات الفخر في الثقافة السورية. لكنه علاّمة في سرديات تاريخية عائدة إلى ما قبل 1400 عام.
لكل سوري حكاية، وهي لم تكن متاحة أو مسموحة قبل 8 كانون الأول 2024. فهم لم يمنعوا من التـوجّع بصوت عال فحسب، كما حُرم ضحايا حماة في الثمانينات من تلقي العزاء بأبنائهم. بل فرض النظام السوري -وهذا ما شاهدناه بعد 2011- على ذوي المعتقلين، التوقيع على تقرير طبي يقرّون فيه أن أبناءهم الذين قضوا تحت التعذيب قد ماتوا بسكتات قلبيّة. كانوا شهوداً على نكبتهم ومُزيِّفين لها في الوقت نفسه، وتحت التهديد دفنوا أبناءهم بصمتٍ وانكسار.كان 8 كانون الأول 2024، يوماً بلا دماء، هكذا وصف السوريون يوم التحرير والذي لم يقدّر له أن يبقى كذلك. فبعد ثلاثة أشهر بالضبط، ويا للمفارقة، وفي سالت الدماء في جبال الساحل إثر تمرّد مجموعة من المنتمين للنظام السابق في حركة طاولت نتائجها أبرياء ومدنيين وعزّل ورجالاً من القوى الأمنيّة.استيقظت آلام هاجعة وتجاورت جنباً إلى جنب مع الجديدة، إذ لا فرق إلاّ في طزاجة الدم أو كميته. راحت هذه السرديّات تتصادم تارة، وتتناحر تارة أخرة: مرةً عبر إنكارها من الطرفين أو التعامي عنها، ومرةً من خلال التشفي.لم يكن في الأمر من جديد عن 2011 سوى تبديل في المواقع. إذ راح كل طرف يشكك في مظلمة الآخر، أو يقلل من شأنها، وفي أسوأ الأحوال يعتبرها عقابًا مستحقًّا وإن أتى متأخرِّاً. خاض المثقفون هذا السجال، فأعادوا تموضعهم القبلي والطائفي والفئوي، اليساري واليميني، في مواقع التواصل. ولم ينجُ من التخندق إلا القابض على جمرة، بل كاد الإنسان في أعماقنا أن يقول خذوني!راح الطرفان يستعيدان سردياتهما، ممزوجة باللوم والألم والعتاب. يستذكرون قصصاً حسبناها نُسيَت، وإذ بها هاجعة تحت أسرّة نومنا.ولأنّ الدم يطلب الدم، أيقظتنا الدماء، أيقظت الضحية فينا، حاول كل منا في محكمة بلا قاضٍ، أن يثبت للآخر حجم صخرته. تخبّط البعض بين الرغبة في الانتقام والتوق إلى المسامحة، حالنا كحال الرجل الستينيّ الذي صرخ في وجه المعتصمين في ساحة الحجاز للحداد على أرواح الشهداء: يذكرهم بالغوطة الشرقية والكيماوي ومجازر النظام السوري، بأهله وعائلته التي فقدها، موّجهاً اللوم لمن صمتوا آنذاك. وماهي إلا دقائق حتى ردّد شتيمة طائفية، انقلبت حين لم يستجب لها الحاضرون، إلى ترداد الشعار الأسمى للثورة السورية: "واحد واحد، الشعب السوري واحد". بدا بملامحه التائهة -بوعي أو من دونه- صراعًا بين إنسانيتّه ومظلمتِه. بين الانتقام والمسامحة. راغباً في احترام حكايته التي حجبها القهر والخوف طيلة 14 عاماً.لم يصدق مؤيدو النظام السوري السابق في 2011 سردية المظلومية لأبناء الثورة، لم يحترموها أو ينتبهوا إلى آلامهم، سخروا منها وأنكروها أو تجاهلوها بصمت دافعه الخوف. وها هو قسم كبير من أبناء الثورة، يكذّب الظلم والحيف الذي وقع على الأبرياء في الساحل السوري، في دائرة من الفعل وردّ الفعل، من تبادل التهم، ما يصعِّب مهمة العدالة الانتقالية والتي لن يتاح لها الوصول إلى مبتغاها إذا لم يستوعب السوريون ضرورة إخراج آلامهم من قبورها الجماعيّة التي دفنها فيها نظام فاشي سابق. فالأشباح التي نربيها في الظلام ستتحول إلى ضباع تلتهمنا. يحتاج السوريون إلى الشجاعة الروحيَّة وإلى التصالح مع أنفسهم لينزعوا عن أرواحهم دور الضحيّة.لعل أقرب التجارب إلينا هي الحرب في رواندا، والتي راح ضحيتها مليون إنسان. إذ قامت العدالة الانتقالية على ثلاث خطوات، آخرها هو الأهم. فقد حوسب كبار المجرمين في محاكمات دولية، ومن يليهم في محاكمات داخلية. أما من كانت جرائمهم بسيطة، فقد جلسوا مع الضحايا فوق ما يسمى بالعشب القصير ليروي كل منهم سرديته للآخر ويعتذر ثم يهديه بقرة، حسب تقليد متبع من التاريخ الرواندي.العدالة لا تعني عقاب القاتل فحسب، بل تحرير الضحية من الألم والرغبة في الانتقام. بأن يعترف السوريون بسرديات بعضهم البعض، من دون أن يحاول أحدهم أن يثبت للآخر أن مظلمته أشد. في كتابها "اختبارات التعاطف" تقول الروائية الأميركية ليزلي جايمسون، "إن التعاطف كالتخيّل، كلاهما يتطلب جهلك المسبق بموضوعه. حيث لا قيمة لمخيّلة متحيّزة أو تعاطف مشروط".والمرحلة التي تلي احترام الضحايا لسرديات بعضهم البعض، هي تفكيكها وفك الارتباط بينها وبين تشوهات الخيال التاريخي والسياسي، الذي يبرر الجريمة كضرورة لثأر قديم، فلا جريمة تبرر أخرى ولا مظلومية تبيح لأحد أن يتحول إلى ظالم.أما استمرار الشعور بالظلم فهو يثقل كاهل الضحيّة، وقد يتحول أداة تنزع عن الآخر إنسانيته فتبرر العنف الواقع عليه. وفي ما يتعلق بالخطوة الثالثة، والتي لا قيمة لها إلا بالاعتراف والتفكيك، فهي نقل هذه الآلام إلى متحف الذاكرة الجمعية، لا كطريقة للندب والبكاء، بل لاستخلاص العبر.والسؤال المطروح على جمهور الثورة، سؤال أخلاقي ومعرفي، إذ تكشف مواقع التواصل وسماع الحكايات أن معظمهم ما زال عالقاً في سردية الضحيّة، بسبب تاريخ طويل من وأد سردياته التي تفجّرت دفعة واحدة. كتب بول ريكور: "إنّ الذاكرة المجروحة يمكن أن تكون مدخلاً للمصالحة، إذا ما قوبل الألم بالاعتراف بدلاً من التنافس على من يكون الضحيّة". فاجترار الألم يفقد الإنسان كل قدرة على الاستمرار. ويهدد بأن يصبح ذريعة لقتل وتدمير من يعتقد أنه سبّب تلك الجراح. أن تتحول تلك التجارب القاسية إلى مصدر إلهام، وأن يستمع السوريون لبعضهم بعدما اكتشفوا أن الإنكار لا ينفع سوى في هدر فرصة ثمينة تدعى الإنسانية لينتصر الوحش في أعماقنا، وأنّ أشباح الحقيقة التي ندفنها اليوم ستعود مستقبلاً للانتقام منّا.