استدعت التطورات في سوريا، وخصوصاً تلك التي شهدتها مدن وقرى الساحل السوري، وما استهدف أهل المنطقة، من السكان العلويين، بالاعتداء والمجازر وأعمال القتل، الاهتمام والإثارة. وبالتالي، المتابعة والتتبع، مع مزيد من الأسئلة المحمومة حول مستقبل التطورات في المشرق العربي، المترابط في الخصوصية والأوضاع السياسية والجغرافية والتركيبة الاجتماعية المتنوعة والحساسة. وتكاد تكون التطورات والانتهاكات والمجازر، التي ارتكبت ضد السكان الآمنين والعزل، في الساحل السوري وجبل العلويين، بمثابة الصدمة الصاعقة، والتجربة المستجدة، المروعة والمهولة، التي تشهدها سوريا ما بعد انقلاع آل الأسد. وبالتالي، تشكل التجربة الأولى والمحك الفعلي لمصداقية السلطة الجديدة في سوريا، والتي يقف على رأسها الرئيس السوري للمرحلة الجديدة الانتقالية أحمد الشرع. وهي تشكل إثباتاً، إذا ما تخلى أبو محمد الجولاني عن شخصيته السابقة، وانتقل إلى أحمد الشرع، أو لا يزال متمسكاً في شخص الماضي، ومسيطراً عليه. لأن ما تعرض له السكان العلويون غير مسبوق وغير مقبول، ولا يمكن المرور عليه أو السماح بتكراره.
بل إن السؤال الأشد إلحاحاً وصعوبة هو، ماذا يعني ما جرى في الساحل السوري، وإلى أين تتجه سوريا والمنطقة من حولها بعد ذلك؟ خصوصاً وأن ما جرى يترافق مع تطورات خطيرة ومهمة أخرى، تتمثل بالخطوات المتصاعدة التي تنفذها إسرائيل، عبر توسيع وتدعيم احتلالها لمرتفعات الجولان وصولاً إلى أعلى قممه ومرتفعاته، وعلى وجه الخصوص قمة جبل الشيخ، إضافة إلى توغل في الجنوب السوري وفي محافظة السويداء تحديداً، ذات الغالبية والكثافة من الطائفة الدرزية.الأخطر من ذلك هو إعلان إسرائيل وضعها السكان الدروز تحت حمايتها، مع تكثيف تحركاتها العسكرية وإطلاقها طائراتها، في مناورات في المنطقة، للدلالة على سيطرتها على الأجواء. وتحريض ومحاولة تشجيع ودفع السكان الدروز على الانفصال والابتعاد عن سلطة الحكومة السورية الجديدة. بما يعني ذلك من دفع نحو تجزئة سوريا، وتشجيع بقية القوى نحو التباعد والتفرق والابتعاد عن المركز الجامع في دمشق.. نحو مشاريع تقسيم وتجزئة سوريا إلى مناطق وكانتونات طائفية ومذهبية.
باختصار، السؤال الذي يطرح نفسه الأن، ما الذي جرى وإلى أين تتجه سوريا والمنطقة وما هي المشاريع المعدة، وما الذي يمكن أن يحدث وإلى أين تتجه الأمور؟سايكس وبيكومن المسلم به، أن القوى المسيطرة والمتفوقة عسكرياً، هي التي تتحكم بمسار الأمور والمناطق الخاضعة لسيطرتها في حاضرها ومستقبلها.
فبعد أن كان وُعد العرب بعد الحرب العالمية الأولى بدولة عربية مستقلة، من قبل القوى الغربية (بعد استفتاء لجنة كينغ كراين) قررت الدول المنتصرة في الحرب، وتحديداً فرنسا وبريطانيا، إعادة تشكيل المنطقة وتقسيمها وفقاً لرؤيتها ومصالحها وأطماعها، على أنقاض السلطنة العثمانية التي لقبت يومها بتركة الرجل المريض.
لهذه الأسباب اتفقت فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية آنذاك، على اقتسام النفوذ والمساحات والدول، في المنطقة وفقاً لمصالحهما.
جرت المفاوضات الأولية التي أدت إلى الاتفاق بين 23تشرين الثاني/ نوفمبر 1915 و 3 كانون الثاني/ يناير 1916، وهو التاريخ الذي وقع فيه الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس على وثائق مذكرات تفاهم بين وزارات خارجية فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية. وصادقت حكومات تلك البلدان على الاتفاقية في 9 و 16 أيار/مايو 1916.
قسمت الاتفاقية فعلياً الولايات العربية العثمانية، خارج شبه الجزيرة العربية، إلى مناطق تسيطر عليها بريطانيا وفرنسا، أو تحت نفوذها. خصصت الاتفاقية لبريطانيا ما هو اليوم فلسطين والأردن وجنوب العراق ومنطقة صغيرة إضافية تشمل موانئ حيفا وعكا، للسماح بالوصول إلى البحر الأبيض المتوسط. أما فرنسا فقد سيطرت على جنوب شرق تركيا وشمال العراق وسوريا ولبنان.
باختصار دول المشرق القائمة الآن، وتحديداً العراق والأردن وسوريا ولبنان، ظهرت نتيجة هذه القسمة، واستمرت وتستمر شكلياً حتى اليوم.برنار لويسالجديد في كل ما جرى، خصوصاً بعد اندلاع حرب طوفان الأقصى وتداعياته، في فلسطين ولبنان وسوريا، أن إسرائيل بنيامين نتنياهو بدأت تتحدث عن الشرق الأوسط الجديد، الذي تدعي وتريد إعادة تشكيله، على أنقاض الشرق الأوسط القديم، الذي شُكل نتيجة مباحثات سايكس وبيكو بداية القرن الماضي.
الجديد والخطير في كل التطورات الراهنة، أن أساس المشروع الحالي الذي ينفذ على الأرض بدعم قوي من الولايات المتحدة الأميركية، أثير وطرح من قبل المنظر والفيلسوف والمستشرق البريطاني برنارد لويس، في لندن (1916- 2018 .(وهو مستشرق بريطاني الأصل، يهودي الديانة، صهيوني الانتماء، أميركي الجنسية. تخرج من جامعة لندن، وعمل فيها مدرساً في قسم التاريخ للدراسات الشرقية والإفريقية.
وفّر برنارد لويس الكثير من الذخيرة الأيديولوجية والفكرية للمحافظين الجدد، وإدارة بوش في قضايا الشرق الأوسط، والحرب على الإرهاب؛ حيث يعتبر بحق المنظر الأساسي والرئيسي لكل موجة التدخل والسيطرة على المنطقة في العقدين الاخيرين، والتي انطلقت من نظرية ثانية متفرعة هي نظرية "صراع الحضارات" لهانتغتون، ولسياسة التدخل والهيمنة الأميركية في المنطقة.
جوهر فكرة أو نظرية لويس تقول: "إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون لا يمكن تحضيرهم (تمدينهم). ولذلك فإن الحل السليم للتعامل معهم حسب رأيه هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية".
والحل لذلك براي لويس، أنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، وإعادة احتلال المنطقة، على أن تكون المهمة المعلنة، هي تدريب شعوبها على الحياة الديمقراطية، والعمل على استثمار التناقضات العرقية والعصبيات القبلية والطائفية.
تردد في أكثر من موقع ودراسة، أنه في عام 1983 وافق الكونغرس الأميركي بالإجماع في جلسة سرية على مشروع برنارد لويس، وبذلك تم اعتماد هذا المشروع، وإدراجه في ملفات السياسة الأميركية الاستراتيجية لسنوات مقبلة. وقد ارفق المشروع بخرائط للدول التي يجب أن تقام على أساس طائفي أو مذهبي أو عرقي.وتقوم رؤية أو مشروع لويس على ثلاثة عناصر:
1- تغيير التركيبة السياسية القائمة في معظم دول العالم الإسلامي، لتصبح مبنية على مزيج من آليات ديمقراطية وفيدراليات إثنية أو طائفية. وهذا هو جوهر المشروع.
2- التركيز على هوية شرق أوسطية كإطار جامع للفيدراليات المتعددة المنشودة، لهذا يدخل العامل الإسرائيلي كعنصر مهم في الشرق الأوسط الكبير المنشود، إذ بحضوره الفاعل تغيب الهويتان العربية والإسلامية عن أي تكتل إقليمي محدود أو شامل.
3- ضرورة إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي من خلال إعطاء الأولوية لتطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل، مما سيدفع الأطراف كلها إلى التسوية والقبول بحدود دنيا من المطالب والشروط.
المثير في مشروع لويس، أنه منذ الغزو الأميركي للعراق بدأ عملياً تطبيق هذه الرؤية، بدليل حالة دولة العراق الموزعة بين تجمعات طائفية وجهوية وعرقية. والدليل الثاني الأشد وضوحاً ما جرى ويجري في السودان، الذي توزع على أكثر من دولة ومنطقة نفوذ، إضافة إلى حال اليمن التي عادت يمنين، وليبيا المتفرقة، والآن سوريا غير المستقرة.
في تجارب التاريخ السياسية والعسكرية والاجتماعية، المتعددة، ثبت أن ما يجري في سوريا، ينعكس مباشرة على لبنان، والعكس صحيح.
لذلك يبقى السؤال الملح، على ماذا ستستقر سوريا، وكيف ستصبح الأوضاع في لبنان؟ هل ستبقى سوريا موحدة ومستقرة وينعم لبنان بمناخ مماثل، أم تنتقل المحنة من دمشق إلى بيروت؟