المُعطيات المتوافرة، المُعلن منها وغير المُعلن، تؤكد أن أوقات عصيبة تمرُّ بها أوروبا، لم يسبق أن عاشتها منذ انتهاء الحرب الدولية الباردة في العام 1990على أقل تقدير، ذلك أن التبايُن بالرأي وبالمواقف مع الولايات المتحدة، وصل الى حدود مُتقدمة من مساحة التفاهُم الاستراتيجي بين الحلفاء الألِداء، وشمل الخلاف بريطانيا للمرة الأولى، وهي كانت تُعطي أفضلية للعلاقة مع واشنطن على حساب العلاقة مع غالبية الدول الاوروبية، قبل الخروج من عضوية الاتحاد الأوروبي عام 2019، وبعده.
ويبدو أن الخلاف ليس تفصيلاً عابراً يمكن أن يتهالك مع الوقت؛ بل أنه جوهري، ويشمل عناوين متعددة، لا سيما في الموضوع العسكري والأمني. وللمرة الأولى تلجأ دول الاتحاد لعقد اجتماعات على مستوى القمة، وعلى مستوى رؤساء أركان الجيوش، للرد على الموقف الذي اتخذه الرئيس دونالد ترامب اتجاه الحرب الأوكرانية من دون أي تنسيق معهم، ولدراسة تداعيات تهديد الرئيس الأميركي بوقف تمويل حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وطلبه من الأوروبيين دفع تكاليف فاتورة الحماية التي توفرها القوات الأميركية للقارة. وقد تباحث قادة الاتحاد الرئيسيين في قمة دعم أوكرانيا في لندن مطلع شهر آذار/مارس، وفي قمة دول الاتحاد في بروكسيل في 6 منه، وخلال اجتماع رؤساء أركان الجيوش الأوروبية في باريس في 11 من الشهر الجاري أيضاً، بضرورة وضع خطة بديلة لحماية القارة، وبإمكانيات أوروبية خالصة، من دون الإعتماد على الولايات المتحدة. فهل يستطيعون تحقيق ذلك؟
هناك صعوبات كبيرة ستواجه دول الاتحاد الأوروبي في تنفيذ الأجندة الدفاعية الخاصة، من الناحية العسكرية، وفي السياق السياسي والتجاري أيضاً. والمشروع قد يُكلِّف دول الاتحاد مبالغ طائلة، تزيد عن الـ5 بالمئة من الدخل القومي لكل من الدول الأعضاء، الذي طلبه ترامب من الأوروبيين لتمويل الناتو. وقد تؤدي مغامرة قادة القارة الى فرط عقد الحلف بعد صموده ما يُقارب 75 عاماً.
أنفقت دول حلف الناتو على الدفاع في العام 2024، مبلغ 1.47 تريليون دولار، منها 968 مليار أنفقتها الولايات المتحدة وحدها، بما يقارب الثلثين، وتتحمَّل واشنطن ما يزيد عن ثلث المبلغ التشغيلي لإدارة الحلف والبالغة 4.67 مليار دولار، وإذا ما قررت الولايات المتحدة وقف تمويل الناتو، او إذا قررت أن لا تموله من دون مقابل، وفقاً لما ورد في تهديدات الرئيس ترامب؛ فإن الحلف سيُصاب بالشلل، ولن يتمكن من الاستمرار من دونها.
ومن الناحية اللوجستية؛ يصعب على القارة وحدها تحمُّل أعباء سباق تسلُّح مع روسيا، كما لا يمكنها إنتاج الكمية الكافية من المستلزمات العسكرية، وهي لا تملك القدرات المتطورة الكبيرة المتوافرة عند روسيا، خصوصاً في السلاح النووي، وفي وسائل اطلاقه المتطورة، كما في مجالات صناعة الصواريخ العابرة. ولا تعوِّض القفزات الهامة التي سجلتها فرنسا في سياق الذكاء الاصطناعي الاختلال الكبير في القدرات المتوافرة عند خصوم القارة.
وما حصل في الحرب الأوكرانية خلال السنتين الماضيتين؛ كشف الاختلال الهائل لغير مصلحة الأوروبيين، ولولا الدعم الأميركي، لما تمكنت كييف من الصمود على الوضعية الحالية، والوضعية الحالية غير مُريحة لها، أو أنها ليست في صالحها، والتقدم الميداني الروسي تسارَع في الأيام الأخيرة، برغم المساعي الأميركية لإعلان وقف لإطلاق النار.
كل المصانع العسكرية الأوروبية لا تنتج أكثر من 700 ألف قذيفة مدفعية ميدانية في العام، بينما يُقدر الإنتاج الروسي من النوع الموازي بـ1.4 مليون قذيفة، وموسكو اشترت 1.5 مليون قذيفة مدفع ميدان من كوريا الشمالية في صفقة واحدة، ولم تتمكن دول الاتحاد الأوروبي من الإلتزام بوعودها لأوكرانيا بتأمين مليون طلقة مدفعية سنوياً، برغم الاستعانة بأسواق تسليحية من خارج أوروبا. وفي مجال الطائرات الحربية المُسيَّرة بدون طيار؛ أنتجت روسيا ما يزيد عن 1.4 مليون طائرة في العام 2024، ومثل هذا العدد يستحيل على الدول الأوروبية مُجتمعة صناعته خلال سنة واحدة. يُضاف الى كل ذلك؛ ارتفاع كلفة صناعة التجهيزات العسكرية في الدول الأوروبية، قياساً لكلفة الإنتاج الروسي المُتدنية.
النهج "الترامبي" الجديد يدفع أوروبا نحو أزمة جدية خانقة، فلا هي قادرة على تحقيق توازن عسكري مع أخصامها – خصوصاً روسيا – ولا هي قادرة على الخضوع التام للإرادة الأميركية التي لا تُبدي عاطفة سياسية وتجارية اتجاهها. والعودة الى تنظيم الخلاف مع روسيا، وإعادة تأسيس تعاون نفطي واستثماري معها، أصبح صعباً جداً على الأوروبيين، بسبب المواقف الأوروبية المتشددة في تأييد كييف، وبسبب الإجراءات المالية الأميركية الجديدة التي منعت كل أشكال تحويل الاعتمادات للبنوك الروسية، بما فيها ثمن كميات الغاز الطبيعي القادمة من روسيا، بينما عادت موسكو الى اللّعب على التناقضات الحزبية في عدد من دول الاتحاد، عن طريق دعمها للحركات اليمينية المتطرفة الصاعدة، وهي بغالبيتها لا تريد الحرب في أوكرانيا، وليس من أولوياتها محاربة روسيا.