فيما يبدو فإن خطط الرئيس الأميركي دونالد ترامب تمضي قدماً -حتى الآن- كما يريد وأكثر، سواء فيما يتعلق بتصوراته عن النظام الدولي وموقع الولايات المتحدة فيه، أو بالنظام الإقليمي الشرق أوسطي وموقع إسرائيل فيه.
تعكس خارطة اهتمامات ترامب أولوياته، سواء في الداخل أو إزاء الخارج، كما تفصح أدواته وتوقيتاته، عن ولع بالإثارة و"الأكشن"، فالرجل يطلب في الغالب "كل شيء" ليرفع سقف المطالَب عند عنان السماء، ويريده في كل مرة "أن يتحقق الآن" ليجعل عنصر الزمن ضاغطاً على الطرف الآخر جل الوقت، بما لا يسمح للطرف الآخر سوى بهامش ضئيل جداً للمناورة، أو حتى بفسحة زمنية معقولة للتفكر والتدبر.
مدرسة ترامب في فنون التفاوض، استدعت خبراتها وأدواتها، من ساحات "البيزنس" غالباً، ومن صالات القمار أحياناً، لكن الرجل استهواه في أغلب الأوقات، نمط التصرف بادعاء أقصى "الشطط" على طريقة "إعمل مجنون"! حدث هذا حين طرح ترامب ما زعم أنها رؤيته لمستقبل غزة بعد الحرب، مدعياً أن "غزة تلزمني" فأنا أريدها لنفسي، وأريد إخلاءها من سكانها لإقامة منتجعات تستقطب أثرياء العالم على نمط "الريفييرا الفرنسية".
طرح ترامب كان كافياً لتحريك المنطقة، بدرقتها العربية، وبغلافها الإسلامي، بدافع البحث عن بدائل لمستقبل غزة، تتحقق بها غايات سيد البيت الأبيض.
(إعمل مجنون)، هو إذن حيلة تفاوضية، هدفها الحقيقي، أن يحمل الخصوم هداياهم وهباتهم المجانية إلى عتبات البيت الأبيض، لكن حيلة ترامب أفرزت بدورها، حيلاً مضادة لدى المُستهدفين بها، ربما كان من بينها "تظاهر بالغفلة"، أو حاول أن يبدو ساذجاً بإخلاص لفكرة السذاجة، وربما اقتضى الأمر، ترقية منهج الصد والرد إلى مستوى "إعمل عبيط"، حدث هذا في ملف غزة، وفي ملف أوكرانيا، وجاري استدعاءه لملف إيران، نووياً كان أو غير نووي.
تأمل مشهد الرئيس الأوكراني وهو تحت ضغط عملية اعتصار توشك أن تحطم قفصه الصدري، أو تدق عنقه، على الملأ، أو فوق رؤوس الأشهاد، أثناء محادثاته مع الرئيس ترامب ونائبه فانس، في المكتب البيضاوي.
كان المطلوب من فولوديمير زيلنسكي، أن يتنازل عن ما في جوف أوكرانيا من معادن ثمينة، وفاء لمديونيات سلاح أميركي حصلت عليه أوكرانيا، قدّرها ترامب بأكثر من ثلاثمائة وخمسين مليار دولار، بينما قال زيلنسكي أن التقديرات مبالغ فيها جداً، وأن قيمتها الحقيقية لا تتجاوز المئة مليار دولار!
اعتصار زيلنسكي على الملأ وطرده من المكتب البيضاوي، وسط نصائح أميركية له بالتنحي، وإخلاء المنصب الرئاسي في أوكرانيا لبديل مناسب، مؤهل للقبول بأفكار ترامب، جسّد مدرسة أميركية جديدة في التعاطي مع طور جديد من أطوار العلاقات الدولية، ترى الولايات المتحدة فيه، أنه طور تكريس زعامة واشنطن "منفردة" للنظام الدولي.
قبعات ترامب وأنصاره أثناء حملته الرئاسية، حملت شعار الحملة المفضل لديه "أعيدوا أميركا عظيمة مرة ثانية"، أو "MAGA".
مفهوم العظمة والتفرد لدى ترامب، هو ما يحركه الآن لإنهاء الحرب في أوكرانيا، لتمكين روسيا من الاحتفاظ بالقدر الضروري من القوة، التي لا تدع أمام الصين فرصة للاستحواذ على مكونات قوة روسية، أو اقتياد روسيا لدعم تطلعات الصين لمناطحة الولايات المتحدة عند سقف النظام الدولي.
نفس مفهوم العظمة، هو ما يحرك الرئيس الأميركي للمطالبة بضم غرينلاند (تبلغ مساحتها مليوني كيلو متر مربع) إلى الولايات المتحدة، وذات مفهوم العظمة هو ما يحرك ترامب للمطالبة بانضمام كندا الى بلاده لتصبح الولاية الامريكية رقم واحد وخمسين، وبنفس المفهوم وقّع ترامب مرسوماً رئاسياً بتغيير مسمى خليج المكسيك ليصبح خليج أميركا، بل إنه عاقب وكالة "أسوشيتد برس" الأميركية، لرفضها تبني المسمى الجديد للخليج وتصميمها على المسمى القديم.
مقدار ما لدى الولايات المتحدة من مكونات القوة والقدرة، وكذلك مقدار ما لدى رئيسها من صلاحيات وسلطات رئاسية هائلة، لا تدع مجالاً كافياً لتحدي سلطاته أو رفض سياساته، لكن الإذعان أيضاً يبدو غير وارد حتى من شركائه في الناتو، أو حلفاءه في حرب أوكرانيا، الذين يتململون من سياساته الاسترضائية الجديدة تجاه فلاديمير بوتين.
أحد أهم استراتيجيات الرد على منهج ترامب الجديد، هو في العودة الى مبدأ قديم في إدارة العلاقات الدولية، هو مبدأ شراء الوقت، واستهلاك أو استنزاف الفترة الرئاسية للرئيس ترامب - أربع سنوات بدأت في العشرين كانون الثاني/يناير الماضي - دون تمكينه من تثبيت مكونات سياسته على الأرض، سواء فيما يتعلق بحرب أوكرانيا وأمن أوروبا، أو فيما يخص مستقبل غزة والضفة الغربية، أو ما يتعلق بإيران، أو بمستقبل تايوان.
يعرف ترامب أن سياساته تثير انزعاج حلفاءه في الناتو، وأنهم يراهنون على مضغ الوقت ريثما تنتهي فترته الرئاسية (وهي الثانية بالمناسبة)، ولهذا يتعجل في تثبيت قواعد التغيير التي يتطلع إليها، الأمر الذي يعزز ميلاً إضافياً لديه لركوب العربة الطائشة، وتجاوز السرعة القانونية، حتى يتمكن من قطع المسافة الكافية لجعل العودة إلى عالم ما قبل ترامب غير ممكنة أو باهظة الكلفة.