شاب في منتصف العشرينات، يحمل في عينيه نظرة حادة تختزن حقداً دفيناً، ينحدر من مدينة حماة، التي شهدت واحدة من أكثر المجازر دموية في تاريخ الأسد الأب. لم يُخفِ مشاعره أثناء عمله صحافياً في موقع إلكتروني، بل وثّقها على الورق بجرأة، حين كتب مقالاً عن معالم مدينته السياحية، وتحديداً عن نواعيرها الشهيرة، لكنه لم يتحدث عن تدفق الماء عبرها، بل عن دماءٍ غمرت ضفافها.
لم يطل الوقت حتى وجد نفسه معتقلاً، رغم الشعارات التي كانت تتغنى بحرية الصحافة آنذاك. أما التهمة، فكانت جاهزة: الخوض في محظورات رسمها القائد الراحل، والذي لم يكتفِ بتكميم الأفواه، بل أصدر في عام 1980 ما عُرف بـ"قانون الأسد 49"، الذي جرّم الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين وحكم على أعضائها بالإعدام.اليوم، ذلك الصحافي ذاته، الذي دوَّت كلماته ذات يوم قائلاً: "سننتقم ولو بعد حين... نحن رضعنا الحقد رضاعة"، يهلل لما جرى من مجازر في الساحل السوري، معتبراً أن العدالة قد أخذت مجراها، وأن الحق عاد إلى أصحابه.بعد 45 عاماً، وقّع الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، على إعلان دستوري يتضمن مادة تحمل الرقم ذاته، 49، لكنها جاءت هذه المرة لتجرّم كل من يمجّد الأسد أو ينكر جرائمه. وكأن عجلة الزمن دارت، وها هي الـ"كارما" تعيد ترتيب المشهد من جديد، حيث يُطلب منك أن تضع أقدامك في النهر، وتنتظر أن تجرف المياه جثث خصومهم. وكما يقول المثل: "السن بالسن... والبادي أظلم".رافقت هذه اللحظة احتفالات حاشدة في الساحات السورية، حيث أحيا السوريون ذكرى الثورة التي أنهت عقوداً من الطغيان، فيما حلّقت الطائرات في السماء، لكن هذه المرة لم تحمل براميل الموت، بل نثرت الورود احتفاءً بالنصر. وعلى الجانب الآخر، غطّى السواد الساحل السوري بأكمله.كانت الثورة السورية لتكون واحدة من أعظم ثورات العصر، لو بقيت راياتها بيضاء، وأياديها نظيفة. ولم تخلف وراءها جائع أو خائف .. كانت ثورة ضد القهر والظلم لكن الإرث الدموي الثقيل الذي خلّفه آل الأسد، جعل السوريين يدفعون الثمن حتى اللحظة، منذ أن وُلد "الدستور ذو اللقب الدائم"، الذي حمل معه لعنة لا تزال تطارد البلاد.أنا ربكم الاعلىمنذ عام 1920، تعاقب على سوريا 16 دستوراً، عكست كل منها المزاج العام أو التحولات السياسية في البلاد. وبينما كانت بعض هذه الدساتير خطوة نحو الحريات وترسيخ الديمقراطية، جاءت أخرى لتكرّس الحكم الفردي وتقيّد المؤسسات التشريعية.من بين تلك الدساتير، برز دستور عام 1950 كأكثرها علمانية وتقدّمية، حيث قيّد صلاحيات رئيس الجمهورية، فمنعه من إصدار المراسيم التشريعية بشكل منفرد، وألزمه بتوقيع مشاريع القوانين التي يقرّها مجلس النواب خلال سبعة أيام. كما حدّ من سلطته في حلّ البرلمان، في خطوة تعكس توجّه اللجنة الدستورية آنذاك نحو تعزيز سلطة المؤسسة التشريعية على حساب النفوذ التنفيذي.لكن هذه المرحلة الديمقراطية لم تدم طويلاً، إذ شهدت سوريا انقلاباً جذرياً مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970، وهو الذي اعتبر نفسه "رب السوريين الأعلى". في عهده، دخل الدستور السوري في حالة من الجمود غير المسبوق، بعد أن فرض عبر المادة الثامنة هيمنة حزب البعث على الدولة والمجتمع، إلى جانب المادة الثالثة التي نصّت على أن "دين رئيس الجمهورية الإسلام".لم يكتفِ الأسد الأب بذلك، بل منح نفسه سلطات مطلقة، شملت إصدار التشريعات، وحلّ مجلس الشعب، وإعلان حالة الطوارئ، وإعلان الحرب والتعبئة العامة، إضافة إلى كونه القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة.ظل هذا الدستور سارياً طوال فترة حكمه، ما أدى إلى استشراء الفساد وتهميش السلطتين التشريعية والقضائية، حيث تحوّل البرلمان إلى أداة شكلية تخدم مراكز القوى الأمنية، فيما بات القضاء عاجزاً عن المحاسبة، مما أرسى دعائم نظام قائم على تحالفات مصلحية، مغلّفة بغطاء دستوري يخدم أجهزة القمع لا الدولة.في عام 2000، مات حافظ الأسد، ليترك وراءه إرثاً من الاستبداد والقمع الذي حكم سوريا لأكثر من ثلاثين عاماً. وعلى الرغم من وفاته، لم يكن التغيير في الدستور السوري نتيجة لاحتياجات الشعب أو تطلعاته، بل كان جزءاً من خطة لتوريث السلطة داخل العائلة الحاكمة.أولى الخطوات كانت تعديل السن القانوني للرئيس، حيث تم تخفيضه ليتيح لبشار الأسد أن يصبح "الوريث الشرعي" للعرش السوري، وهو ما تم بموافقة البرلمان الذي لا يعدو كونه جهازاً شكلياً تحت الهيمنة الأمنية.لكن ما جاء بعد ذلك كان أكثر إثارة للقلق: بشار الأسد لم يتبنّ دستوراً جديداً يعكس تطلعات الشعب السوري، بل حافظ على دستور والده الذي أثبت فشله في تحقيق العدالة الاجتماعية وتطوير البلاد. لقد وضع بشار دستور والده في "الثلاجة" ليظل سارياً، مما يعني أن النظام السوري استمر في تبني نفس السياسات الاستبدادية التي تعمقت خلال فترة حكم والده، دون أدنى اعتبار لتطلعات الشعب السوري نحو الديمقراطية والحرية.هذا التعديل الدستوري لم يكن سوى خطوة من خطوات احتكار السلطة داخل العائلة الحاكمة، إذ تحوّل النظام السوري إلى مجرد مملكة غير معلنة، حيث يتوارث أبناء العائلة الحكم بينما الشعب السوري يدفع ثمن الاستبداد والتهميش.تعديل اضطراريعندما اندلعت الثورة السورية في عام 2011، وجد بشار الأسد نفسه في مأزق تاريخي لم يكن قادراً على مواجهته بنفس الأدوات القديمة. وهو ما دفعه إلى إصدار دستور جديد في 26 شباط/فبراير 2012، في محاولة يائسة لتلبية وعود الإصلاح التي زعم أنها ستكون حلاً للأزمة الشعبية المتصاعدة.الخطوة الأولى كانت إلغاء المادة الشهيرة 8 من الدستور، التي كانت تكرّس حزب البعث العربي الاشتراكي كقائد للدولة والمجتمع، وهي محاولة لطمأنة الشعب السوري الذي خرج مطالباً بالحرية والتغيير. لكن رغم إلغاء هذه المادة، فإن الدستور الجديد لم يقدم أي تغييرات جوهرية. فحتى مع السماح بتأسيس أحزاب سياسية جديدة، لم يبرز أي حزب جديد على الساحة السياسية، بل بقي المشهد السياسي محكوماً بالسلطة المطلقة للنظام.هذه التعديلات لم تكن سوى محاولة لتفريغ الاحتجاجات من مضمونها، وهي إشارة واضحة إلى أن النظام لم يكن يسعى إلى تغييرات حقيقية بل كان يحاول امتصاص الغضب الشعبي وتوجيهه إلى مسار بعيد عن مطالب الحرية والديمقراطية.ومع مرور الوقت، استمر النظام في تعزيز قبضته الأمنية بشكل أكبر، وأصبحت السجون ملاذاً للمعتقلين السياسيين الذين تم احتجازهم منذ بداية الاحتجاجات. بدلاً من أن تفتح أبواب الحرية والتغيير، أصبحت أبواب السجون أوسع، لتكون شاهداً على فشل وعود الإصلاح المزعومة واستمرار القمع.التفككمع سقوط النظام البائد، انهارت كل السلطات العسكرية والأمنية التي كانت تحكم البلاد بقبضة حديدية لعقود. لكن ما لم يكن يتوقعه البعض، هو أن الإعلان الدستوري الجديد سيركز بشكل أساسي على العدالة الانتقالية، ويُعتبر خطوة محورية نحو تصحيح الأخطاء التي ارتكبتها السلطة السابقة، ووضع حدٍ للانتهاكات التي كانت تُمارس بحق المواطنين.كان الهدف الرئيس لهذا الدستور هو تجريم انتهاكات النظام البائد، ومنح مهمة حماية الوطن والمواطنين للجيش، فضلاً عن تأكيد أهمية الحفاظ على السلم الأهلي في مرحلة ما بعد سقوط النظام. لكن الأهم من كل ذلك، كان ضمان استقلالية القضاء وتمكينه من محاسبة الفاسدين والمجرمين الذين شاركوا في إذلال الشعب السوري على مدار سنوات من القمع.ولعل الأبرز في هذا التعديل الدستوري هو محاولته رد اعتبار الحقائق التي حاول النظام السابق طمسها، وتحقيق العدالة للأجيال القادمة. استلهم الاعلان الدستوري السوري الجديد روح دساتير أكثر تقدماً مثل دستور 1950، الذي تميز بالعقلانية والحرص على فصل السلطات وتقديم الحق في العدالة على كل اعتبار آخر. ومع ذلك، لم يغفل الدستور الجديد عن توجيه رسالة صارمة لأولئك الذين قد يسعون إلى "تبييض" صفحة الأسد الأب والابن أو محو جرائمه. بل كان الهدف واضحاً: ضمان أن هذه الجرائم ستظل حية في الذاكرة الجمعية للشعب السوري، وأن محاسبتها ستكون جزءاً أساسياً من العملية السياسية المستقبلية.