انقلبت التلميحات الإسرائيلية التي تكررت مؤخراً حول إمكانية العودة إلى القتال في غزة حرباً فجأة، صباح أمس الثلاثاء، بغارات عنيفة خلّفت نحو 416 ضحية، جلهم من الأطفال والنساء، ليبقى السؤال عالقاً: هل كان التصعيد العسكري مدفوعاً بمصالح سياسية أم استراتيجية عسكرية؟
كان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يسعى إلى تغيير شروط اتفاق وقف إطلاق النار المبرم في كانون الثاني الماضي، لكن المنتقدين يقولون إنه لديه مصلحة شخصية في إطالة أمد الحرب، وفقاً لصحيفة "فاينانشال تايمز".
ومنذ أن وافق على مضض على وقف إطلاق نار متعدد المراحل مع حماس في كانون الثاني، لم يُخفِ استياءه من شروطه. وفي الساعات الأولى من صباح الثلاثاء، أنهى نتنياهو السلام الهش الذي سمح به. وبينما كان سكان غزة نائمين، شن الجيش الإسرائيلي ضربات ضخمة على الجيب الساحلي، مما أسفر عن مقتل أكثر من 400 شخص، وفقاً لمسؤولين فلسطينيين، في أحد أكثر الأيام دموية في المنطقة منذ الأسابيع الأولى من الحرب التي استمرت 17 شهراً.
ثم خرج نتنياهو في خطاب تلفزيوني قصير مساء الثلاثاء قائلاً: "هذه مجرد البداية.. من الآن فصاعداً، ستتحرك إسرائيل ضد حماس بكثافة متزايدة. ومن الآن فصاعداً، لن تُعقد المفاوضات إلا تحت النيران".
إلى ذلك، لقي الهجوم المتجدد ترحيباً من حلفاء نتنياهو من اليمين المتطرف الذين يعتمد عليهم من أجل بقائه السياسي، مما عزز ائتلافه في الوقت الذي يواجه فيه ضغوطاً متزايدة بسبب الفضائح والإخفاقات الأمنية التي سمحت لحماس بشن هجوم في السابع من تشرين الأول 2023.
لكن الهجوم أثار أيضاً غضب عائلات الرهائن الذين ما زالوا محتجزين في غزة، وعمق الكارثة الإنسانية، ودفعت معارضيه إلى توجيه اتهامات له بأنه كان يتصرف انطلاقاً من اعتبارات سياسية وليس أمنية وطنية.
إذ قال إيتامار يار، نائب رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق: "لدى نتنياهو مصلحة شخصية في استمرار الحرب. ليس لديه أي شعور بضرورة وقفها".
وبينما نصّ الاتفاق الأصلي الذي وقّعته إسرائيل في كانون الثاني على ثلاث مراحل، تُطلق فيها حماس تدريجياً سراح الرهائن الذين لا تزال تحتجزهم في غزة، مقابل إطلاق سراح سجناء فلسطينيين وهدنة تُفضي في نهاية المطاف إلى انسحاب إسرائيلي كامل ووقف دائم للأعمال العدائية، رفض نتنياهو في الأسابيع الأخيرة، بعدما شجعه دعم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إنهاء الحرب وسحب القوات، وسعى بدلاً من ذلك إلى هندسة ترتيب جديد.
وبموجب الشروط الجديدة التي اقترحتها الولايات المتحدة ودعمتها إسرائيل، سيتم إطلاق سراح عدد كبير من الرهائن قبل الموعد المخطط له مقابل تمديد الهدنة لمدة أسابيع، ولكن من دون ضمان إنهاء الحرب بشكل دائم، وهي الشروط التي رفضتها حماس.
وأشار مسؤولون إسرائيليون يوم الثلاثاء إلى أنهم قد يوقفون الهجوم الجديد إذا وافقت حماس على مطالبهم، وقال أشخاص مطلعون على الوضع إن وسطاء يتواصلون مع الجانبين على أمل منع استئناف الأعمال العدائية على نطاق واسع.
لكن المسؤولين الإسرائيليين أوضحوا استعدادهم للقيام بذلك إذا رفضت الحركة المسلحة الاستجابة لمطالبهم. وقال أحدهم: "إذا عادت حماس حقاً إلى طاولة المفاوضات، فسيتوقف هذا. وإن لم يحدث، فسيستمر".
في المقابل، رأى منتقدو بنيامين نتنياهو أن توقيت الهجوم الإسرائيلي المتجدد كان مرتبطاً بالسياسة الداخلية.
فقد كان الهجوم الأولي الذي شنته إسرائيل على غزة رداً على هجوم حماس في السابع من تشرين الأول 2023 هو الأكثر كثافة في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ولكن على الرغم من حجم الهجوم الذي أسفر عن مقتل أكثر من 48 ألف شخص، وفقاً لمسؤولين فلسطينيين، وتحويل معظم غزة إلى أنقاض غير صالحة للسكن، فإن إسرائيل لم تحقق بعد أياً من أهداف حربها، خصوصاً لجهة إطلاق سراح جميع الرهائن وتدمير حماس.
ويرى ياكوف أميدرور، مستشار الأمن القومي السابق لنتنياهو، أنه إذا شرعت إسرائيل في هجوم بري متجدد، فإنها الآن في وضع يسمح لها بنشر المزيد من القوات لفترة أطول مما فعلت في بداية الحرب، لأنها نجحت بالفعل في إضعاف أعداء آخرين مثل حزب الله اللبناني. لكن منتقدي نتنياهو اعتبروا أن توقيت الهجوم المتجدد لم يكن مرتبطاً بالاعتبارات العسكرية بقدر ما كان مرتبطاً بالسياسة الداخلية.
فمنذ أشهر، يتعرض رئيس الوزراء لضغوط من حلفائه اليمينيين المتطرفين لاستئناف القتال، حيث انسحب وزير الأمن القومي السابق، إيتمار بن غفير، من الائتلاف الحكومي احتجاجاً على اتفاق وقف إطلاق النار المبرم في كانون الثاني، وهدد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش باتباع نفس النهج.
لكن الهجوم المتجدد غيّر المعادلة السياسية، إذ أعلن بن غفير يوم الثلاثاء انضمامه مجدداً إلى ائتلاف نتنياهو، كذلك رأى محللون أن تهديدات سموتريتش باتت الآن مستبعدة.
كما رأى سياسيون معارضون أن الضربات كانت محاولة لصرف الانتباه عن الضجة المتصاعدة بشأن خطة نتنياهو لإقالة رئيس جهاز المخابرات الداخلية الإسرائيلي، حيث كتب يائير جولان، زعيم حزب العمل اليساري، على موقع "إكس": "الجنود على الخطوط الأمامية والرهائن في غزة مجرد أوراق في لعبة نتنياهو للبقاء".
إلا أن نتنياهو رفض التلميحات، ووصفها بأنها "أكاذيب".
كما أثارت العمليات الإسرائيلية المتجددة ردود فعل عنيفة من جانب الرهائن السابقين وأقارب أولئك الذين ما زالوا محتجزين، والذين حذروا من أن الهجوم يعرض حياة نحو 25 أسيراً يعتقد أنهم ما زالوا على قيد الحياة للخطر.
وقال محللون إن الهجوم المتجدد قد يُفاقم التوترات في الضفة الغربية المحتلة، التي حافظت على هدوء نسبي رغم الحرب في غزة، خصوصاً أن حماس كانت دعت في أعقاب الغارات الإسرائيلية يوم الثلاثاء، الفلسطينيين هناك إلى الانتفاضة ردًا على ذلك.
إلى ذلك، جددت إسرائيل قصفها على مختلف مناطق غزة صباح الأربعاء، واستيقظ سكان القطاع المدمر على مزيد من الغارات والدماء من شمال شرقي غزة، وجنوبها أيضاً.
كما انتشرت صور جثث الأطفال، وفوقهن انحنت الأمهات منتحبات، أو الآباء باكين، في مشاهد ألفها أهل غزة منذ تفجر الحرب قبل أكثر من 15 شهراً.