صدرت عن منشورات الجمل، رواية "السكين/تأملات بعد محاولة جريمة قتل" لسلمان رشدي، ترجمة خالد الجبيلي، والذي يسلط الضوء للمرة الأولى على تفاصيل حادثة الطعن التي تعرض لها صاحب كتاب "أطفال منتصف الليل" في نيويورك صيف 2022 وكادت تودي بحياته في أحدث تجليات التهديدات التي يواجهها منذ إصداره كتاب "آيات شيطانية".
وكان هذا الهجوم بالسكين، أثناء مؤتمر أدبي على ضفاف البحيرات العظمى الأميركية شمالي نيويورك، "تذكيراً قاسياً ووحشياً إلى حد ما" بالفتوى التي أصدرتها إيران العام 1989، وفق ما قال الروائي الشهير في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وأفقد الهجوم الذي نفذه شاب أميركي من أصل لبناني متعاطف مع النظام الإيراني، الكاتب الأميركي البريطاني البصر في إحدى عينيه، التي يخفيها الآن، بالإضافة إلى إصابات في رقبته وبطنه.
"المدن" تنشر هنا مقتطفاً من الرواية بالاتفاق مع الناشر.
ملاك الموت
1
السكين
في الساعة الحادية عشرة إلاّ ربع من صباح يوم جمعة تغمره الشمس في 12 آب (أغسطس) 2022، في شمال ولاية نيويورك، هاجمني شاب وكاد أن يقتلني بسكين، بعد أن صعدت إلى خشبة المسرح في مدرَّج في بلدة تشاوتوكا لأتحدّث عن أهمية الحفاظ على سلامة الكُتّاب وعدم تعرّضهم للأذى.
كنت مع هنري ريس، المؤسس المشارك لمشروع إنشاء مدينة في بيتسبرغ توفّر ملاذاً آمناً للكتّاب الذين تتعرّض حياتهم وسلامتهم للخطر في بلدانهم، مع زوجته ديان سامويلز. كان هذا هو الموضوع الذي اتفقنا أنا وهنري على مناقشته في تشاتوكوا: إقامة أماكن آمنة في أمريكا للكتاب القادمين من أماكن أخرى، وعن مشاركتي في بدايات هذا المشروع. وكان من المقرر أن يشكل ذلك جزءاً من أسبوع من الفعاليات التي ستُعقد في معهد تشاتوكوا بعنوان "أكثر من مجرد مأوى: إعادة تعريف البيت الأميركي".
لم نكن قد تحدّثنا عن هذا الموضوع من قبل، ثم اكتشفت أن المدرّج لم يكن مكاناً آمناً بالنسبة لي في ذلك اليوم.
ما أزال أرى تلك اللحظة بالحركة البطيئة. فقد تبعت عيناي الرجل الذي قفز من مقعده بين الجمهور وجرى نحوي. ما أزال أرى كل خطوة يخطوها وهو يركض بسرعة نحوي. أرى نفسي أنهض واقفاً على قدميَّ وألتفتُ نحوه. (بقيتُ واقفاً وأصبحت وجهاً لوجه معه. لم أدر له ظهري. لا توجد إصابات أو جروح في ظهري). ثم رفعتُ يدي اليسرى لأدافع عن نفسي، فغرز فيها السكين.
ثم توالت الطعنات: في رقبتي، في صدري، في عيني، في كل مكان، ثم شعرت بساقيَّ تنهاران، وتهاويتُ على الأرض.
***
كان مساء يوم الخميس، 11 آب (أغسطس) ذاك، آخر أمسياتي البريئة. فقد كنا قد تجوّلنا أنا وهنري وزوجته ديان في حديقة المعهد، وتناولنا عشاء لذيذاً في مطعم أميس 2 الذي يقع عند ناصية الحديقة الخضراء التي تُدعى "بستور بلازا". وعدنا بذكرياتنا إلى الكلمة التي كنت قد ألقيتها قبل ثمانية عشر عاماً في مدينة بيتسبرغ عن الدور الذي قمت به في إنشاء شبكة مدن ملاذ دولية للكتّاب، وكان هنري وديان حاضرين، واستلهما منها فكرة أن يجعلا بيتسبرغ مدينة لجوء وملاذ للكتّاب أيضاً. فبدآ بتمويل بيت صغير، ورعاية شاعر صيني اسمه هوانغ شيانغ، كتب على الجدران الخارجية لبيته الجديد قصيدة بحروف صينية كبيرة بارزة باللون الأبيض. وشيئاً فشيئاً، وسّع هنري وديان المشروع حتى أصبح لديهما شارعاً كاملاً من تلك البيوت في الجزء الشمالي من المدينة، اسمه شارع سامبسونيا. كنت سعيداً جداً لأن أكون في تشاتوكوا وأحتفل بالإنجاز الذي حققاه.
لكن الشيء الذي لم أكن أعرفه هو أن الشخص الذي سيحاول أن يقتلني، كان يربض في حديقة معهد تشاتوكوا التي دخل إليها مستخدماً هوية مزيفة، وكان اسمه المزيف مركباً من أسماء حقيقية لمتطرفين مسلمين شيعة معروفين، وحتى عندما تناولنا العشاء في المطعم، ثم عدنا إلى دار الضيافة حيث منت أقيم، كان يقبع في مكان ما. فقد جاء قبل ليلتين، ونام في العراء، وجاب أرجاء المكان ودرس بدقة موقع هجومه المرتقب، ووضع خطته من دون أن تلاحظه كاميرات المراقبة، أو رجال الأمن. كان من الممكن أن يفاجئنا في أي لحظة.
لا أريد أن أذكر اسمه في هذا الكتاب. لذلك سأطلق عليه اسم: المعتدي، قاتلي المحتمل، الرجل الأحمق الذي كوّن عني فرضيات، والذي يوجد بيني وبينه شبه اتفاق - مميت... وجدتُ نفسي أفكّر فيه، ربما على سبيل المسامحة، بأنه "حمار"، لكنني سأشير إليه في هذا النص بطريقة لائقة أكثر بـ "سين"، أما ما أطلق عليه في بيتي، فهذا من شأني.
لم يكلّف هذا الـ "سين" نفسه عناء التعرّف على الرجل الذي قرر أن يقتله. فقد اعترف أنه لم يقرأ أكثر من صفحتين من جميع كتاباتي، وشاهد بضعة فيديوهات عني على اليوتيوب. كان هذا كلّ ما يحتاج إليه. لذلك يمكننا أن نستنتج أنه مهما كان سبب اعتدائه عليَّ، لم يكن له علاقة برواية "آيات شيطانية".
سأحاول أن أفهم السبب في هذا الكتاب.
***
في صباح يوم 12 آب (أغسطس)، تناولنا وجبة إفطار مبكرة مع راعيي هذه المناسبة في الشرفة الخارجية المشمسة في فندق أثينيوم الكبير التابع للمعهد. لا أحبّ عادة تناول وجبة إفطار كبيرة، فاكتفيت بتناول كوب من القهوة وقطعة كرواسون، والتقيت بالشاعر الهاييتي سوني تون-أيمي، ومدير الفنون الأدبية في تشاتوكوا مايكل آي رودل الذي سيقدّمنا للجمهور. ودارت بيننا بعض الأحاديث حول مساوئ أو فضائل طلب أو عدم طلب عناوين كتب جديدة من أمازون. (اعترفت بأنني أفعل ذلك أحياناً)، ثم سرنا في بهو الفندق وعبرنا ساحة صغيرة إلى الجزء الخلفي من المسرح حيث عرّفني هنري على والدته التي لم تبلغ التسعين من عمرها، وكان ذلك لقاء لطيفاً.
قبل أن نصعد إلى المسرح بقليل، قُدِّم لي مغلف فيه شيك - لقاء المحاضرة التي سأقدّمها - وضعته في جيب سترتي الداخلي. وعندما حان وقت المحاضرة، صعدت أنا وسوني وهنري إلى خشبة المسرح.
يتّسع المدرّج لأكثر من أربعة آلاف شخص. لم يكن مليئاً تماماً، لكن كان هناك عدد كبير من الحاضرين. قدّمتنا سوني بكلمة مقتضبة من المنصة على يسار المسرح، وجلست أنا على يمين المسرح. صفّق الجمهور بحرارة. أتذكّر أنني رفعت يدي أشكرهم على تصفيقهم وترحيبهم بي. ثم، بزاوية عيني اليمنى – كان ذلك آخر شيء رأته عيني اليمنى - رأيت الرجل المتشح بالسواد يجري نحوي على الجانب الأيمن من منطقة الجلوس: يرتدي ثياباً سوداء، ويضع على وجهه قناعاً أسود. اندفع بسرعة وبقوة نحوي مثل صاروخ. نهضتُ واقفاً على قدميَّ، ورحت أنظر إليه وهو يتجه نحوي. لم أحاول أن أهرب، بل وقفت مذهولاً.
كان آية الله روح الله الخميني قد أصدر منذ ثلاثة وثلاثين سنة ونصف السنة أمر الإعدام السيء السمعة بحقي وبحق جميع من ساهموا في إصدار رواية "آيات شيطانية". خلال تلك السنوات، أعترف أنني كنت أتخيّل أحياناً أن الشخص الذي سيغتالني ينهض في منتدى عام أو في غيره من الأماكن، ويندفع نحوي هكذا. لذلك كان أول شيء تبادر إلى ذهني عندما رأيت هيئة هذا القاتل المندفع نحوي هو: إنه أنت إذاً. ها أنت ذا. يُقال إن آخر كلمات هنري جيمس كانت: "لقد جاء أخيراً، الشيء المميّز". كان الموت قادماً نحوي أيضاً، لكنه لم يخطر ببالي أنه شيء مميّز، وإنما بدا لي أنه مفارقة تاريخية.
أما الفكرة الثانية التي راودتني فهي: لماذا الآن؟ حقاً؟ لقد مضى وقت طويل. لماذا الآن، بعد كل هذه السنوات؟ من المؤكد أن العالم قد مضى، وأُغلق هذا الموضوع. لكن ها هو، يقترب بسرعة، نوع من مسافر عبر الزمن، شبح قاتل من الماضي.
في ذلك الصباح، لم يكن هناك رجال أمن مرئيين في المدرّج - لمَ لا؟ لا أعرف - لذا كانت لديه فرصة واضحة ليجري نحوي. كنتُ واقفاً هناك، أحدّق نحوه، واقفاً بثبات في مكاني مثل أرنب ألجمه ضوء سيارة مبهر.
ثم وصل إليَّ.
لم أرَ السكين قط، أو على الأقل لا أتذكّرها. لا أعرف إن كانت طويلة أم قصيرة، نصلها عريض وقصير مثل سكين البوي، أو ضيق كالخنجر، أو مسنّنة مثل سكين تقطيع الخبز، أو مقوسة كالهلال، أو مثل السكين التي تُنقر بالإصبع والتي يستخدمها أولاد الشوارع، أو حتى سكيناً عادية سرقها من مطبخ أمه. ماذا يهم كل ذلك. الشيء المهم هو أنها سلاح خفيّ يصلح للخدمة، وقد أدت عملها على أكمل وجه.
***
قبل أن أسافر إلى تشاتوكوا بليلتين، حلمت أن رجلاً يحمل رمحاً يهاجمني، مصارع في مدرّج روماني، وجمهور غفير يهتف ليرى الدم يسيل مني. رحت أتدحرج على الأرض أحاول تفادي طعنات ذلك المصارع في أسفل جسدي وأنا أصرخ. لم تكن هذه أول مرة أرى فيها حلماً كهذا. ففي حلمين سابقين، بينما كانت نفسي الحالمة تتدحرج بشكل محموم، كانت نفسي الحقيقية النائمة تصرخ أيضاً، وقذفت بجسدها - جسدي – إلى خارج السرير، واستيقظت عندما سقطت بشكل مؤلم على أرضية غرفة النوم.
هذه المرة لم أسقط من السرير. فقد أيقظتني زوجتي إليزا - الروائية والشاعرة والمصورة الفوتوغرافية راشيل إليزا غريفيث - في الوقت المناسب. جلستُ في السرير وجسدي يرتجف من شدة وضوح الحلم وعنفه. توجّست بحدوث شرّ (مع أن الهواجس المسبقة أشياء لا أؤمن بها). مع أن المكان في تشاتوكوا الذي سيجري فيه هذا اللقاء مدرّج أيضاً.
قلت لإليزا: "لا أريد أن أذهب"، لكن الناس يعتمدون عليَّ – فقد كان هنري ريس يعتمد عليَّ - فقد أُعلن عن موعد هذا اللقاء منذ فترة، وبيعت جميع التذاكر - وسيدفعون لي مبلغاً سخياً لقاء حضوري. وقد صادف أنه كانت لدينا في ذلك الوقت فواتير منزلية كبيرة يجب تسديدها. فقد كان نظام التكييف في بيتنا قديماً، وقد يتوقف عن العمل في أي لحظة، لذلك كان يجب تجديده، وكنّا بحاجة إلى النقود، فقلت لها: "من الأفضل أن أذهب".
سُميَّت بلدة تشاتوكوا على اسم بحيرة تشاتوكوا التي تقع على ضفتها. و"تشاوتوكوا" هي كلمة بلغة إري التي كان يتحدّث بها شعب إري من سكان أمريكا الأصليين، لكن الشعب واللغة انقرضا، لذلك يظل معنى الكلمة غير واضحاً. فقد تعني "خفّين" أو ربما تعني "كيساً مربوطاً في الوسط" أو ربما تعني شيئاً آخر، وقد تكون وصفاً لشكل البحيرة، أو قد لا تكون. فقد ضاعت أشياء كثيرة في الماضي، حيث سينتهي بنا المآل كلنا، وسيطوي النسيان معظمنا.
صادفتُ هذه الكلمة أول مرة في عام 1974، عندما أنهيت كتابة روايتي الأولى. قرأتها في كتاب "زن وفن صيانة الدراجات النارية" للكاتب روبرت م. بيرسيغ، الذي حظي بشهرة كبيرة في تلك السنة. لا أتذكّر الآن الكثير عن "زام"، كما كانت تُعرف – فلا يوجد لديَّ أدنى اهتمام بالدراجات النارية وببوذية زن أيضاً - لكنني أتذكّر أنني أحببت هذه الكلمة الغريبة، وأحببت أيضاً فكرة لقاءات جماعات "تشاتوكوا" التي تُناقش فيها أفكار في أجواء من التسامح والانفتاح والحرية. وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، انتشرت "حركة تشاوتوكوا" في جميع أنحاء أمريكا من تلك البلدة التي تقع على ضفاف البحيرة، وأطلق عليها ثيودور روزفلت اسم "أعظم شيء أميركي في أميركا".
كنتُ قد تحدّثت في تشاوتوكوا قبل اثني عشر عاماً، في آب (أغسطس) 2010 تقريباً. تذكّرت الجو المريح والمنعزل لمؤسسة تشاتوكوا، والشوارع الأنيقة والنظيفة المحاطة بالأشجار حول المدرج. (لكن لدهشتي، رأيت الآن مدرّجاً مختلفاً. فقد هُدم المدرّج القديم وحلّ مكانه مدرّج جديد في عام 2017). ويلتقي داخل جدران هذه المؤسسة، أشخاص ذوي شعر فضي وعقلية ليبرالية منفتحة في مجتمع شاعري، ويعيشون في بيوت مريحة مبنية من الخشب لا يرون ضرورة لإغلاق أبوابها. بدا لي أن قضاء بعض الوقت في هذا المكان أشبه بالعودة خطوة إلى الوراء في الزمن، إلى عالم بريء سابق ربما لا يوجد إلاّ في الأحلام.
في تلك الليلة البريئة الأخيرة، ليلة 11 آب (أغسطس)، وقفتُ وحدي خارج بيت الضيافة ونظرتُ إلى القمر الذي أصبح بدراً يسطع فوق البحيرة. وحيداً، متدّثراً في الليل، أنا والبدر فقط. في روايتي "مدينة النصر"، يدّعي ملوك إمبراطورية بيسناغا الأوائل في جنوب الهند أنهم ينحدرون من إله القمر، ويربطون أنفسهم بالسلالة القمرية التي من بين أعضائها الإله كريشنا، والمحارب العظيم الذي يشبه البطل الإغريقي أخيل، أرجونا في المهابهاراتا. أعجبتني فكرة أنه، بدلاً من أن يصعد أبناء الأرض إلى القمر في سفينة تحمل اسم إله الشمس الإغريقي "أبولو"، أن تهبط آلهة القمر من القمر الاصطناعي إلى الأرض. وقفت تحت ضوء القمر قليلاً، وأطلقت العنان لمخيلتي لتسرح في تلك الأشياء المتعلقة بالقمر. وتذكّرت القصة الملفّقة عن نيل أرمسترونغ التي تقول إنه عندما وضع قدمه على القمر، تمتم قائلاً: "حظاً سعيداً يا سيد غورسكي"، لأنه عندما كان صبياً صغيراً في أوهايو سمع جيرانه آل غورسكي يتشاجرون حول رغبة السيد غورسكي في ممارسة الجنس الفموي. فردّت عليه السيّدة غورسكي: "عندما يسير الصبي في البيت المجاور على سطح القمر، يمكنك أن تفعل ذلك". لكن للأسف، لم تكن تلك القصة صحيحة، لكن صديقتي أليغرا هيوستن صنعت منها فيلماً سينمائياً مضحكاً.
وتذكّرت قصّة "المسافة إلى القمر" التي كتبها إيتالو كالفينو في مجموعته القصصية "الكوميديا الكونية" التي يحكي فيها عن الزمن عندما كان القمر أقرب إلى الأرض أكثر من الآن، وكان بإمكان العشاق أن يقفزوا إلى سطح القمر ويلتقون عليه.
وتذكّرت فيلم الرسوم المتحركة للتيكس أفيري "بيلي بوي" عن عنزة صغيرة أكلت القمر.