تعرض ليلى جبر جريديني، في "غاليري جانين ربيز" (الروشة-بيروت)، مجموعة من الأعمال، ذات أحجام مختلفة وتقنيات متنوّعة، وذلك تحت عنوان "باوباب - شجرة الحياة". هذا المعرض الفردي هو الرابع للفنانة لدى الغاليري المذكورة، وذلك بعد معارضها الفردية الثلاثة السابقة: "شظايا" 2012، و"مقاتلو الحرية" 2019، و"البنوة" 2023.
المعروف عن شجرة الباوباب الأفريقية أنها مقدسة لدى العديد من الثقافات، كما أنها شجرة "محادثة"، لا يجوز قطعها، فهذا الفعل يعتبر تدنيسًا لها، وهي الشجرة النموذجية لأفريقيا الاستوائية الجافة، وشعار دولة السنغال وغينيا. ثمرها يسمّى خبز القرد، وهو صالح للأكل. أمّا اسم الشجرة فمشتق من الكلمة العربية "أبو حباب"، وفاكهتها، بيضاوية الشكل، تحتوي على مئات البذور.
وقد ورد في النشرة الخاصة بالمعرض أن "الباوباب - شجرة الحياة، ونظراً لشكلها الغريب، تقول الأسطورة العربية إن الشيطان اقتلع هذه الشجرة، ودفع أغصانها في الأرض، وترك جذورها في الهواء". وللمناسبة، فإن الباوباب تنمو بأشكال متعددة إلى حد ما، ولها جذع مستدير وخشب ناعم مشبع بالماء (لهذا تسمى الشجرة الزجاجة). مظهر الشجرة مميز من دون شك، إضافة إلى ضخامة وارتفاع يصل إلى 25 مترًا، ومحيط قد يبلغ أكثر من 20 مترًا أحياناً، وهي تحتوي على تاج من الفروع غير المنتظمة، الخالية من الأوراق في الجزء العلوي من الجذع، وهذا أحد تفسيرات تسميتها "الشجرة المقلوبة"، لأنها بأغصانها العارية تبدو وكأنها انقلبت رأساً على عقب وجذورها في الأعلى.
هذا المظهر المميّز لم يغب عن الفنانة التي تقول: "كان حبًا من النظرة الأولى. لم يسبق لي أن صادفتُ اسم الشجرة إلا في كتاب طفولتي "الأمير الصغير" لسانت إكزوبيري الذي ترك أثرًا عميقًا في نفسي. قصةٌ ألهمت أحلام طفولة لا تُحصى، وحملت خيالي إلى آفاقٍ مجهولة. من كان ليتوقع أنني، بعد سنوات، سأُفتنُ تمامًا بأشجار الباوباب التي اكتشفتها في زنجبار؟ في اللحظة التي رأيتها فيها، تعرّفتُ عليها غريزيًا، رغم أنني لم أكن أعرف شيئًا عن النباتات المحلية. وجدتُ نفسي في رحلة بحث، أمسح المناظر الطبيعية بحثًا عن كل شجرة مهيبة ألمحها في الأفق".
يشير الفنان الألماني جواشيم فون ساندرارت (1606- 1688) إلى ضرورة اكتساب "علم طبيعي جيد لجميع الأشجار العظيمة، وأوراقها أو أنواعها، سواء القريبة منها أو البعيدة". وفي الواقع، إذا كان من الصعب دائمًا معرفة جميع أنواع هذه الأشجار، وأوراقها وألوانها وجذوعها، فمن السهل أيضًا الوقوع في فخ رسمها دائمًا بالطريقة نفسه. لقد رسمت ليلى جبر جريديني شجرة باوباب بالفعل، كما تطلعنا الأعمال المعروضة في الغاليري، لكن ليس من الممكن إغفال المنحى الذي اتبعته الفنانة في تعاطيها مع الموضوع، إذ تنقّلت بين الحفاظ على الرسم الشكلي، الذي يشير إلى الشجرة مباشرة، وبين معالجة تشكيلية ذات منحى يبتعد، إلى حد ما، عن الشكل كي يغوص في معالجة أسلوبية ذاتية.
فالشجرة تعبق بالحياة، كما الكائن البشري، ولها أسرارها أيضاً، وهو ما أوقع جريديني تحت سحر الباوباب. "لقد شعرتُ برغبةٍ جامحةٍ في اكتشاف ما يجعل أشجار الباوباب استثنائيةً إلى هذا الحد. هل كان حجمها الهائل، أم أشكالها المذهلة، أم الشعور بالغموض الذي تثيره؟ ربما كان مزيجًا من كل شيء..."، تقول. والشجرة في شكل عام، أكانت الباوباب أو سواها، ليست ذات أبعاد ثابتة، وجزء كبير من جمالها يتلخص في التباين بين فروعها، وفي التوزيع غير المتساوي لخصلاتها، وأخيراً في غرابة معينة تلعب بها الطبيعة، والتي يكون الرسام حكماً جيداً عليها. ومع ذلك، لا بد من القول أن الطريق الذي شقته الفنانة، في تنقلّها بين التمثيل وما يقترب من التجريد في بعض الأعمال، لا يعتبر تقليدياً من بين العديد من الطرق الأخرى، بيد أنه يلاحق الطبيعة في تنوعها، متسلّحاً بذوق واضح، وتلوين ذي اتجاه ذاتي، بعيداً من التمثيل الدقيق. إن المنظور الخاص بجذع فروع شجرة الباوباب، لدى جريديني، هو منظور عاطفي بحت، ويضاف إليه ما ابتكرته من فعل الخياطة والنسيج والرسم بالألوان في طريقتها لإبراز الجمال الساحر لهذه الأشجار المهيبة.
أضف إلى ذلك، أن أشجار الباوباب تُعدّ مصدرًا حيويًا للمأوى والغذاء، إذ تُوفر ثمارًا مغذية لعدد لا يُحصى من الحيوانات والزواحف والحشرات والخفافيش كما أنها تخزّن الماء في "خراطيمها"، مما يُغذي الأفيال خلال مواسم الجفاف، وتلعب أوراقها الصالحة للأكل دورًا رئيسيًا في العديد من العلاجات العشبية. "إن كل قطعة في هذه المجموعة تلتقط جزءًا من هذه القصة، على أمل تكريم والحفاظ على إرث هذه الأشجار القديمة، والتي عاش بعضها - مثل شجرة "جروتبوم" الناميبية المنهارة مؤخرًا - أكثر من 1275 عامًا"، بحسب جريديني.