شهد لبنان خلال الأشهر الأخيرة تحوّلاتٍ كبرى أبرزها انتخاب رئيس الجمهوريّة جوزاف عون وتعيين نواف سلام رئيسًا للحكومة، كانت حتمًا وليدة مناخٍ سياسيّ ممهِّدٍ للإصلاح في بنية الدولة ومحاولة تحييدها عن حرب المحاور، سواءً عبر الدبلوماسية أو من خلال التطبيق الفعليّ لسياسة النأي بالنفس، في محاولةٍ لتخليص البلاد من لعنة "دولة الحاجز"، بعد حربٍ شاقّةٍ ما تزال تبعاتها حاضرة حتى اليوم، وسنوات من الانهيار الدراماتيكيّ للدولة ومؤسّساتها.
وفي هذا السّياق، عقد المركز العربي في واشنطن بالتعاون مع برنامج الشرق الأوسط في مركز ويلسون ندوة تحت عنوان: "حكومة لبنان الجديدة: التحدّيات وآفاق الإصلاح والتأكيد على النهوض"، ضمّت نخبةً من الخبراء السّياسيين والاقتصاديين والدبلوماسيين، لمناقشة أبرز التحدّيات والفرص الّتي تواجه لبنان في ظلّ قيادته الجديدة.
وشارك في الندوة كلٌّ من الدكتور جوزاف باحوط، مدير معهد عصام فارس في الجامعة الأمريكيّة في بيروت، وباتريشا كرم، نائبة الرئيس للشؤون الخارجيّة والاتصال في فريق العمل الأمريكيّ من أجل لبنان في واشنطن، كما انضمّت لاحقًا الخبيرة الاقتصاديّة البارزة في الشأن اللّبنانيّ علياء مبيّض. وقد أدار النقاش فريقٌ من الباحثين المرموقين في المؤسّستين.
وجاء هذا الحوار في وقتٍ مفصليّ يشهد فيه لبنان إعادة رسمٍ لمعادلاته الداخليّة، في ظلِّ تراجع نفوذ حزب الله إقليميًّا، واستمرار تداعيات الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الّتي أثقلت كاهل البلاد لسنوات. أسفر ذلك عن تهيئة فرصة قد تكون نادرة للمضيّ في مسار الإصلاح وتعزيز دور المؤسّسات واستعادة الثقة المحليّة والدوليّة، شرط توافر إرادة سياسيّة صلبة ومتابعة حثيثة من قِبل جميع الأطراف..أوّلًا: خلفيات المشهد السّياسيّ والإقليميّاستهلّ الحاضرون النقاش باستعراض السياق العام للأحداث التي مهّدت لتبلور معطيات جديدة في لبنان. فقد أشار المشاركون إلى أنّ تطوّراتٍ إقليميةً متسارعة وقعت في الأشهر الأخيرة، بدءًا من الحرب المُدمِّرة في غزة، مرورًا بارتفاع وتيرة الضغوط على المحور الإيرانيّ-السّوريّ-حزب الله، وصولًا إلى تشكيل حكومة لبنانيةّ جديدة وانتخاب رئيس جديد للجمهوريّة هو جوزاف عون، إضافةً إلى اختيار نواف سلام رئيسًا للوزراء.
وهنا أوضح باحوط أنّ التراجع الذي مُنِيَ به حزب الله بعد الحرب الأخيرة وتبدّل ملامح المشهد الإقليميّ، أوجد مساحةً لتحرّكاتٍ داخليّة في لبنان كانت تبدو مستحيلةً في وقتٍ سابق. فقد تراجعت قدرة الحزب العسكريّة واهتزّت قوّته الرمزيّة، فيما انكفأت جزئيًّا بعض قوى "الممانعة" الإقليميّة، وباتت إيران نفسها تواجه سيناريوهاتٍ ملتبسة. هذا الفراغ النسبيّ أو التراجع شكّل نافذةً صغيرة أمام الدولة اللّبنانيّة لمحاولة استئناف دور المؤسّسات وتفعيلها. ومن جانبها، سلّطت باتريشا كرم الضوء على التحوّلات الدوليّة الّتي لا تزال في طور التشكّل، موضحةً أنّ الحرب الدائرة في عدّة مناطق والصراعات ذات الطابع الإقليمي أوجدت "سيولةً سياسيّة". ورغم أنّ هذه السيولة تحمل مخاطر، فقد تتيح للبنان هامشًا للتحرّك واستقطاب دعمٍ دوليّ للإصلاح، شرط أن يتمتّع القادة اللبنانيون برؤيةٍ واضحةٍ وإرادةٍ متماسكةٍ لتعزيز المسار المؤسّسي.ثانيًا: حكومة جديدة وفرصة سانحة للإصلاحيرى كثيرون داخل لبنان وخارجه أنّ انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتكليف رئيس جديد للحكومة، إضافةً إلى تعيين حاكمٍ لمصرف لبنان، كلّها مؤشّراتٌ قد تفتح الباب أمام إصلاحٍ جدّي. وما يعزّز هذا الأمل النسبيّ، وفق المشاركين، هو الهوامش السّياسيّة الّتي يتمتّع بها الرئيسان عون وسلام، نظرًا لابتعادهما عن الصفقات التقليديّة الّتي غالبًا ما قسّمت السلطة على أساس المحاصّصة والطائفيّة. ورغم الحماسة الّتي أبداها المشاركون، حذّر الدكتور باحوط من عقباتٍ لا يُستهان بها، أبرزها أنّ الطبقة السّياسيّة التقليديّة لا تزال موجودة، وأنّ تجاوز الخلافات القديمة سيتطلّب جهدًا كبيرًا. فمجتمع الزعماء اللبنانيين، أو ما يسمّى "أمراء الحرب"، معتادٌ على سياسة المساومات وتوزيع المناصب على أسسٍ طائفية وزبائنية، ما قد يُبطئ أيّ مشروعٍ إصلاحي. كذلك لا يمكن تجاهل أنّ حزب الله ما يزال يمثّل قوّةً على الساحة الداخلية رغم تعرّضه لهزّةٍ قاسية عسكريًّا وسياسيًّا، وهو قد يلجأ إلى مناوراتٍ للحفاظ على مكتسباته.
أمّا باتريشا كرم، فشدّدت على الحاجة إلى "توافقٍ أوّلي" لتجنّب التعطيل. ونبّهت في الوقت ذاته إلى ضرورة ألّا يتحوّل هذا التوافق إلى غطاءٍ يعرقل القرارات الحاسمة، لا سيّما فيما يخصّ مكافحة الفساد وإعادة هيكلة المصرف المركزي. فالمطلوب في نهاية المطاف هو إحداث تغييرٍ جذريّ في أسلوب إدارة الدولة، وتمكين المؤسّسات الرقابية والقضائية من ملاحقة كلّ من تورّط في فسادٍ أو أضاع المال العام. وفي هذا الإطار، لفتت إلى أنّ الأسئلة المطروحة على الرئاسة والحكومة تتعدّى البُعد المؤسّسي إلى ضرورة تقديم رؤى واضحة تضمن للخارج – خصوصًا الدول المانحة – الجديّة في المضيّ بالإصلاح.ثالثًا: الوضع الاقتصاديّ على شفير الهاويةانضمّت الخبيرة الاقتصادية علياء مبيّض إلى الندوة لشرح جوانب الأزمة الاقتصاديّة، مشيرةً إلى أنّ القطاع المصرفيّ في حالةٍ أشبه بالجمود، وأنّ المصرف المركزي مثقلٌ بديونٍ هائلة. وأضافت أنّ غياب أيّ اتفاقٍ جدّي مع صندوق النقد الدوليّ أو وضع خطةٍ وطنية متكاملة لإعادة هيكلة الدين العام يجعل إمكانية استئناف النمو ضئيلةً للغاية. وتتطلّب أيّ حلولٍ جذرية لمعالجة اختلالات الاقتصاد اللبناني إعادة رسملة المصارف وتوزيع الأعباء بشكلٍ عادل، حتى لا يتحمّل المودعون وحدهم الخسائر الفادحة.
ولفتت مبيّض الانتباه إلى ازدياد اعتماد الكثير من اللبنانيين على اقتصادٍ غير رسميّ (اقتصاد النقد) نتيجة فقدان الثقة بالمصارف وبالدولة عمومًا. وهذا "التحوّل الأسود" في السوق يخلق تحدّياتٍ جديدة تتعلّق بمكافحة التهرّب الضريبي وتنظيم عمليات التبادل المالي، كما يعيق أيّ مسعى للإصلاح الهيكلي. وتساءلت مبيّض إن ما كان لدى القيادة الجديدة التصوّر الكافي لمواجهة هذه المشكلات، مطالبةً الحكومة بوضع جدولٍ زمنيّ لإجراءاتٍ طارئة، مثل إعادة تشغيل قطاع الكهرباء على نحوٍ تدريجيّ، وإصلاح منظومة الاتصالات وإدارات الدولة الأخرى ولو بشكلٍ جزئيّ، لإظهار جدّيتها أمام المجتمع الدولي. إذ إنّ الانطلاق بهذه التدابير قد يبعث برسالة تفاؤل، ويشجّع الدول والصناديق الداعمة على مساعدة لبنان.رابعًا: ضبط السلاح واستعادة سيادة الدولةفي موازاة الحديث عن الإصلاح الاقتصادي، أشار المجتمعون إلى أنّ تعافي لبنان يستدعي حسم مسألة السلاح خارج إطار الدولة. فالجيش اللبناني هو الحامل الشرعيّ الوحيد لمسؤولية الدفاع عن البلاد وحماية حدودها، وينبغي أن توضع كلّ الأسلحة تحت إمرة المؤسّسات الرسمية، بعيدًا عن أيّ وصاية أو ميليشيا. وبحسب باتريشا كرم، فإنّ نزع سلاح حزب الله مسألة معقّدة، لكنّ الحيثيات الأخيرة تقرّبها من خانة الممكن إن وُضعت ضمن إطارٍ زمنيّ واضح وخاضعٍ للرقابة الدولية.
ولم يخفِ السفير ديفيد هيل، الذي حضر جانبًا من الندوة، وجود هواجس لدى واشنطن وحلفائها حيال استمرار وجود السلاح غير الشرعي في الجنوب، وما قد يخلقه من أجواء عدم استقرارٍ على الحدود مع إسرائيل. وذكر أنّ إسرائيل تشترط انسحابًا كاملًا من أيّ أراضٍ لا تزال تحتلّها في لبنان بتوافر ضماناتٍ بعدم عودة حزب الله إلى التمركز هناك، ما يعني ضرورة رفع الجهوزية العسكرية للجيش اللبناني وضبط الحدود الدولية بإشرافٍ أمميّ أو إقليميّ في المرحلة الأولى.
وأضاف السفير هيل أنّ هناك فرصة غير مسبوقة لتوسيع دعم المجتمع الدولي للجيش اللبناني، شريطة أن تبادر القيادة اللبنانية نفسها إلى وضع خطةٍ دقيقة تعزّز قدراته، وتتماشى مع التوجّه العام في الولايات المتحدة الرامي إلى كبح نفوذ إيران وحلفائها في المنطقة. فالتوافق الحزبي في واشنطن على أهمية دعم الجيش اللبناني قائمٌ، لكنّ توظيفه يتطلّب عملًا دبلوماسيًّا متواصلًا مع صنّاع القرار الأمريكي، وعرضًا واضحًا للالتزام الحكومي بالسيادة وبمكافحة الفساد.خامسًا: علاقة لبنان بالعالم العربيّ والمجتمع الدوليّفي هذا الإطار، شكّل سؤال "كيف سيُعيد لبنان تحسين علاقاته العربية والدولية؟" محورًا بارزًا في الندوة. فقد انشغل لبنان في السنوات الأخيرة بصراعاتٍ إقليميّة، وابتعد تدريجيًّا عن عمقه العربيّ، وخسر من جرّاء ذلك فرصًا تمويلية واستثماراتٍ مهمّة. وإذا كانت الدول الخليجية قد علّقت أو قلّصت دعمها للبنان بسبب هيمنة حزب الله على القرار السّياسيّ فيه، فإنّ المتحدّثين يرون اليوم أنّ تراجع الحزب إقليميًّا ربما يعيد فتح الأبواب على مصراعيها.
وتحدّث السفير هيل عن أنّ الإدارة الأمريكية الحالية تسعى لتقاسم الأعباء في المنطقة، وتفضّل أن يضطلع حلفاؤها العرب، كالمملكة العربية السعودية والإمارات وغيرهما، بدورٍ أكبر في حلّ أزمات الإقليم. ولأنّ لبنان جزءٌ أساسيّ من هذه المعادلة، فإنّ مساهمة الدول الخليجية حيويّة في أيّ خطة نهوضٍ اقتصاديّ، سواء عبر الاستثمارات المباشرة أو دعم القطاعات الإنتاجية أو مساعدة الحكومة على إرساء الاستقرار الأمني. لكنّ ذلك يرتبط بشرطٍ أساسيّ، هو وضع حدّ لتفرّد حزب الله بالسلاح وامتيازاته، وتأكّد العواصم الخليجية من نية القيادة اللبنانية الجديدة معالجة جذور الفساد المستشري، وتطوير بيئة الأعمال والقضاء.
أمّا باتريشا كرم، فاعتبرت أنّ عودة لبنان إلى الحضن العربي مرهونةٌ بمدى التزام بيروت بمقرّرات جامعة الدول العربية، ولا سيّما تلك المتعلقة بأمن المنطقة والعلاقات الخارجية. ولعلّ الخطوة الأكثر إلحاحًا في نظرها هي ترميم الثقة من خلال مبادراتٍ مبسّطة لكن ملموسة، مثل تبسيط الإجراءات الإدارية أمام المستثمرين أو إطلاق برامجٍ سياحية وتعليمية موجّهة لدول الخليج. إذ يمكن للبنان أن يستعيد مكانته كمركزٍ تعليميّ وخدماتيّ مميّز، في حال توافرت بيئةٌ مستقرة وآمنة.سادسًا: الداخل اللّبنانيّ بين المجتمع المدنيّ والانتخابات المقبلةطرحت مديرة الندوة سؤالًا حول مدى التفاؤل الشعبي في ضوء هذه التطوّرات، ومدى حيوية المجتمع المدني في الضغط باتجاه الإصلاح. ووفقًا للتقييمات التي عُرضت في الندوة، فإنّ فترة الحراك الشعبي التي انطلقت في تشرين أوّل العام 2019 تركت أثرًا لا يُستهان به في الوعي العام، حتى وإن تراجعت وتيرة التظاهرات في العامين الأخيرين. إذ لا يزال ناشطو المجتمع المدني ومجموعاتٌ حقوقيةٌ متعددة يسعون إلى مراقبة أداء الحكومة، وينتظرون الاستحقاق الانتخابي المقبل لترجمة تطلّعاتهم إلى واقعٍ نيابي جديد.
من جهةٍ أخرى، لفتت باتريشا كرم إلى أنّ المجتمع المدني يعاني من نقصٍ في التمويل والدعم الدولي، بعدما قلّصت بعض الدول والجهات المانحة مساعداتها بسبب ظروفٍ داخلية وخارجية. ومع ذلك، لا يزال لهذه المنظّمات دورٌ مهمّ في توعية المواطنين ومساءلة السلطة، وذلك من خلال مراقبة أعمال الحكومة ومجلس النواب، وإصدار تقارير وتوصيات قد تفيد الجهات الدولية. ولعلّ التحدّي الأكبر الآن هو ردم الهوّة بين حماسة الشارع للإصلاح وتعقيدات التركيبة السياسية التي قد تحدّ من زخم العمل المدنيّ.سابعًا: آفاق الشراكة مع الولايات المتحدة وأوروباتطرّق النقاش كذلك إلى علاقة لبنان بالولايات المتحدة وأوروبا، وخصوصًا بعدما أصدر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قراراتٍ بتعليق مساعداتٍ أجنبيةٍ رئيسة كانت تخصّ الجيش اللبناني. ويأمل كثيرٌ من اللبنانيين أن تراجع الإدارة الحالية – وإن لم تتّضح بعد رؤيتها حيال إيران وسائر الملفات – هذه السياسة، وأن تقدّم دعمًا معتبرًا للقوات المسلّحة اللبنانية باعتبارها ركيزة السيادة والاستقرار. غير أنّ هذا الدعم، كما قال السفير هيل، سيظلّ مرهونًا بالتقدّم على مسار نزع سلاح حزب الله وتنفيذ إصلاحاتٍ جذريةٍ في قطاع المال والمؤسّسات.
وشدّد الخبراء على أنّ دور الولايات المتحدة وأوروبا لا ينبغي أن يقتصر على المنح المالية، بل يجب أن يمتدّ إلى إطلاق شراكاتٍ تنموية واستثماراتٍ مستدامة، وتسهيل اندماج لبنان في أسواقٍ عالمية، ودعم قطاعاته الحيوية كالتعليم والطبابة والتكنولوجيا. ومن الضروري أيضًا أن تتبنّى هذه الدول نهجًا دبلوماسيًّا وتشريعيًّا يدفع السياسيين اللبنانيين إلى مكافحة الفساد وتفعيل استقلالية القضاء، مثل فرض عقوباتٍ مدروسة على شخصيات متورّطة في الفساد أو انتهاكات حقوق الإنسان، بالتنسيق مع السلطات القضائية الدولية.
وفي ختام الندوة، أجمعت الآراء على أنّه لا يمكن فصل المسار الاقتصاديّ عن الأمنيّ، ولا يمكن تأجيل أيٍّ منهما لمرحلةٍ لاحقة. بل ينبغي للحكومة الجديدة، برئاسة نواف سلام ورعاية الرئيس جوزاف عون، أنّ تجمع بين المسارين في رؤيةٍ واضحة تعكس حاجة اللبنانيين إلى الاستقرار والنهوض الاقتصادي. وسواء تعلّق الأمر بتطبيق اتفاق الطائف أو استعادة سيطرة الدولة على سائر أراضيها، فإنّ المحكّ الفعلي يكمن في مدى التزام الأطراف الداخلية بهذه الأهداف، ومدى استعداد المجتمع الدولي والعربي لدعم هذه العملية.