في ظل تصاعد التحولات الإقليمية وتبدّل الأولويات الدولية في الملف السوري، برزت مؤخراً مؤشرات على انفتاح غير مسبوق بين أطراف كانت حتى وقت قريب في حالة عداء مباشر. فقد شهدت المرحلة الأخيرة انطلاق مسار تواصل سياسي وأمني بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وتركيا، برعاية مشتركة من الولايات المتحدة وحكومة إقليم كردستان العراق. هذا الانفتاح، الذي كان يُعد ضرباً من المستحيل قبل سنوات، يعكس تغيراً في مواقف الفاعلين الإقليميين، ويدلّ على إدراك متبادل بأن الجمود العسكري والسياسي لم يعد ممكناً، وأن التسويات الجزئية قد تكون المدخل الوحيد لإعادة ضبط المعادلة السورية المتأزمة.تفاهمات أولية
وقالت مصادر رفيعة من "قسد"، لـ"المدن"، إن هذه الاتصالات بين قسد وتركيا أفضت إلى تفاهمات أولية حملت ملامح تحوّل نوعي في طبيعة العلاقة بين الطرفين، أبرزها الاتفاق على وقف العمليات العدائية المتبادلة، وإخراج المقاتلين الأكراد غير السوريين من سوريا، إضافة إلى حل قوات حماية الشعب الكردية ودمج مقاتليها ضمن هيكلية "قسد"، تمهيداً لدمج الأخيرة في وزارة الدفاع السورية، وفق خطة تتضمن تسيير دوريات مشتركة بين "قسد" وقوات من الأمن العام السوري في مناطق التماس، ولا سيما محيط سد تشرين.
هذا الانفتاح التركي على "قسد"، ولو بحذر، يعكس تراجعاً نسبياً في التشدد تجاه مشروع الإدارة الذاتية، ويُعد مؤشراً على قبول ضمني بطرح اللامركزية، في حال توافر ضمانات أمنية وسياسية معينة. ويجري ذلك بالتوازي مع حراك كردي داخلي واسع تسعى من خلاله القوى والأحزاب الكردية إلى بلورة موقف موحد، تمهيداً للإعلان عن توافق بين المجلس الوطني الكردي ومجلس سوريا الديمقراطية، بما يفضي إلى تشكيل وفد كردي موحد للحوار مع السلطات في دمشق في إطار أي عملية سياسية وطنية مقبلة.
وفي الوقت ذاته، تستمر اللجان المشتركة بين الحكومة الانتقالية في دمشق و"قسد" في العمل على تطبيق الاتفاق الذي وقّعه الرئيس السوري أحمد الشرع مع قائد قسد مظلوم عبدي، والذي من المفترض تنفيذه مع نهاية العام الجاري. غير أن هذا المسار لا يخلو من التعقيدات، حيث تسود حالة من عدم التفاؤل بإمكانية الالتزام بالإطار الزمني المحدد، خصوصاً في ظل تعثر تنفيذ بعض البنود الرئيسية، على رأسها تسليم إنتاج النفط من قبل "قسد" إلى الحكومة السورية، واستمرار الخلاف حول آليات دمج قوات "قسد" بوزارة الدفاع. وتُصرّ "قسد"، بحسب مصادر مطلعة، على أن يكون انضمامها ككتلة عسكرية متماسكة من خلال تشكيل فيلقين، وذلك انطلاقاً من قناعة راسخة بعدم إمكانية تجاهل دورها في محاربة تنظيم داعش والتضحيات التي قدمها أكثر من 120 ألف مقاتل.
على الأرض، تعمل قسد على إعادة ترتيب علاقتها مع العشائر العربية في الجزيرة السورية، خصوصا في الرقة ودير الزور، بهدف توحيد القيادة العشائرية وتعزيز حضورها داخل "قسد"، ما من شأنه تقوية الموقف التفاوضي في مواجهة دمشق، خصوصاً في ظل ما تعتبره الإدارة الذاتية تقصيراً في الإعلان الدستوري الأخير، الذي لم يلبِّ طموحاتها ولا طموحات شرائح واسعة من السوريين المطالبين باللامركزية الادارية. وفي إطار توسيع قاعدتها الاجتماعية والسياسية، تبذل "قسد" جهوداً للتواصل مع القوى الدرزية في السويداء وبعض الفعاليات السياسية والاجتماعية في الساحل السوري، من أجل كسب الدعم لمطالبها المتعلقة بإقرار اللامركزية الإدارية كإطار للحكم المستقبلي في البلاد.الفجوة كبيرة
على الرغم من ذلك، تبقى التحديات كبيرة، إذ إن خطاب الرئيس الشرع وحكومته لا يزال يتمسك بمركزية الدولة كخيار لا بديل عنه، ما يعكس فجوة واضحة بين طروحات الطرفين، ويُحتّم ضرورة خوض حوار عميق وشامل يراعي واقع القوى القائمة على الأرض، ويقدم تسويات واقعية تضمن التوازن بين وحدة الدولة وخصوصيات مكوناتها.
وفي ضوء هذه المعطيات، فإن النجاح في المراحل المقبلة مرهون بقدرة "قسد" على التوفيق بين مطالبها القومية وضرورات الاندماج الوطني، والاستفادة القصوى من هامش الانفتاح التركي وتغير المزاج الإقليمي حيال المسألة الكردية. كما أن بناء تفاهمات داخلية متينة مع المكونات المحلية والفاعلين السوريين الآخرين سيكون عاملاً حاسماً في تقوية موقفها التفاوضي. أما على صعيد العلاقة مع دمشق، فإن إيجاد آلية تفاوض مرنة تحفظ هيكلية "قسد" العسكرية وتضمن انخراطها في المؤسسة الدفاعية السورية دون تفكيك بنيتها، يشكل تحدياً جوهرياً قد يُحدد مصير الاتفاق برمّته.
إن تأخر التفاهم على الملفات الشائكة كالثروات النفطية، والدمج العسكري، وإعادة توزيع السلطات بين المركز والأطراف، قد يؤدي إلى تأجيل التطبيق العملي لأي اتفاق، ما لم تتدخل أطراف دولية وإقليمية ضامنة لدفع الطرفين نحو حلول وسط. بذلك، يصبح من الضروري الإسراع في تهيئة بيئة تفاوض حقيقية تتجاوز الخطابات الإيديولوجية وتستند إلى الوقائع الميدانية، لضمان تحول الاتفاقات السياسية إلى وقائع مستدامة تحفظ وحدة سوريا وتنوعها في آن واحد.