أكتب هذه الملاحظات قبل الحلقة الأخيرة من مسلسل "لام شمسية". لا أعرف كيف سيقرّر صنّاع العمل إنهاءه. هل ستكون نهاية "واقعية" تحاكي ما يحصل عادة في حالات العنف ضد النساء والأطفال، أي الإسكات والوصم والتواطؤ المجتمعي؟ أم نهاية يوتوبية تتحقق فيها العدالة للضحايا؟ الجواب بصراحة تفصيليّ، لأن ما طرحه العمل حتى الآن كافٍ، رغم كل الملاحظات الجانبية التي قرأتها هنا وهناك والقابلة للنقاش حول تطوّر الشخصيات وسير الحبكة. كافٍ كي يترك بصمة، لا في تاريخ الدراما العربية فحسب، بل في تعميم وعي مجتمعي حول قضايا قليلاً ما تُعالَج بهذا القدر من الذكاء والمعرفة والفن والمسؤولية. فالمسلسل لا يقدّم حبكة عن العنف والتحرّش بقدر ما يكشف آليات عملهما. ولا يحكي قصة عن متلاعِبٍ نرجسيّ بقدر ما يشرّح المنظومة (أو جزءاً منها) التي تنتجه وتحميه وتسمح بتكراره بوصفه نمطاً ثابتاً بغض النظر عن خصوصية كل حالة.
ولكي يفعل ذلك، فهو يفرّق بين التحرّش والبيدوفيليا. والتمييز هنا أساسي. فالشخصية المحورية، وسام، لا تتحرّش بالأطفال من باب الرغبة الجنسية المجرّدة، بل من موقع السيطرة. السيطرة التي هي، كما نعرف في أدبيات العنف، غاية في ذاتها. والتحرّش الجنسي ليس إلا واحداً من أساليب هذه الشخصيات في إلحاق الأذيّة، وليس محصوراً فيها.
شخصية وسام مكتوبة بدقة. ليس وحشاً نرصده من النظرة الأولى، بل هو وجه مألوف ومحبوب وقريب. هذه الشخصيات النرجسية (حتى إن لم يسمِّها المسلسل بوصفها كذلك)، يصفها علم النفس بأنها ذات سحر اجتماعي وقدرة عالية على التلاعب العاطفي والإدراكي، وفي الوقت نفسه لا تُرى كما هي. لا تظهر حقيقتها إلا للضحية. لأنها تعمل في الخفاء، في العتمة، في العلاقة الثنائية المعزولة. لهذا يختار وسام ضحاياه كل مرة من الفئات الأضعف: طفل، امرأة هشّة، شابة في أزمة. ليس لأنهم يثيرون رغبة خاصة، بل لأنه يسهل إخضاعهم. النشوة الجنسية، في هذا السياق، ليست سوى تجلٍّ للّذة الأعظم: لذّة التحكم والسيطرة والإخضاع.يبيّن المسلسل كذلك البُعد البنيوي للعنف: فمُرتكبه لا ينشأ من فراغ ولا يعمل بشكل معزول، بل يُنتَج داخل شبكة من الصمت والخوف والتواطؤ. وأظن أن هذا ما يشتغل عليه المسلسل ببراعة، حين يُظهر كيف أن إثبات حدوث العنف صعب وشائك، وعندما يحصل فإن تبعاته غالباً ما ترتدّ على الضحية، أو على فاضحها. فالجريمة هنا تنمو وتتجذر وتُيْنِع في ظل التابو الأكبر: الجنس. وحين تحين لحظة الكشف، نرى البيئة المجتمعية تؤثِرُ الصمت على المواجهة، و"الستر" على العدالة، و"السُمعة" على الحقيقة.تلاعب إدراكيالعتمة، حرفياً ومجازياً، تُطبِق على المسلسل كغطاء ثقيل. معظم مَشاهده مصوّرة بإضاءة خافتة، كأن الشاشة نفسها تشارك في لعبة الإخفاء. لكن هذه العتمة ليست فقط تقنية سردية، بل استعارة عن البيئة النفسية والاجتماعية التي ينشأ فيها هذا النوع من العنف. فالشخصيات النرجسية المؤذية، تعتمد على قدرتها على عزل الضحية، وإقناعها بأنها مسؤولة عما يحصل لها، وإيهامها بأن ما تعانيه ليس حقيقياً – وهو ما يُعرف في علم النفس بالتلاعب الإدراكي (gaslighting)، أي أنه تلاعب منهجيّ يهدف إلى تقويض ثقة الضحية في إدراكها لما يجري، ويحوّل كلامها إلى هلوسة، ثم إلى دليل ضدها. ووسام يفعل ذلك بشكل مستمرّ: قبل الجريمة، ليمهّد لها، وخلالها وبعدها، ليسمح بامتدادها وتكرارها. يقيم مع يوسف علاقة مبنية على "اللعب" و"السرّ"، ويسلب صوت رباب بدفعها إلى الاكتئاب وإسكاتها بأدوية الأعصاب، فلا تتكلّم، وإن تكلّمت فلن يصدقها أحد لأنه مهّد ليبدو كلامها خطلاً وجنوناً. ومن اللحظة التي تفضحه فيها نيللي، سيظل يكرّر في أكثر من مناسبة: إنها مجنونة لا يمكن تصديقها.وهنا لا بد من التوقّف عند أمر أساسي: صمت الضحية ليس نتيجة للعنف (رباب ليست مكتئبة بسبب ما قد تكون رأته أو عاشته، بل دُفعت إلى الاكتئاب حتى لا تحكي ما تعرفه). بل إن الصمت يحمي العنف، وهو هدف مقصود ومدروس. فالعنف هنا لا يطاول الجسد وحده، بل هو ممارسة رمزية ولغوية ونفسية هدفها نزع الشرعية عن صوت الضحية، فلا تُسمع، حتى إن حكت. بل قد يمرّ وقت طويل قبل أن تدرك الضحية أنها كذلك، وأن ما تعيشه هو عنف موسوم. وهذا يفتح الباب أمام قراءة العنف، بوصفه علاقة قوة، تنتج معرفة زائفة، وتُعيد تشكيل الذات الخاضعة حتى تفقد إدراكها بذاتها.حين تتكلم الضحيةفي بيئة كهذه، يصبح الفضح ضرورة. فغيابه هو ما سمح لوسام أن يستمرّ في جرائمه لسنوات من دون أن يُمسّ. ولهذا، تبدو لي النقاشات التي أثيرت حول قرار نيللي نشر بوست في فيسبوك، من دون استئذان ابنها، أنها لا تصيب مقصدها، أي حماية الطفل. فالكلام، في هذه الحالة، ليس انتهاكاً لخصوصية الطفل، بل محاولة لإخراجه من العزلة والصمت اللذين فرضهما عليه المعتدي. ومن الوهم الاعتقاد أن حماية الطفل هي في تكريس الصمت وإدامته. فالحديث إلى الطبيب النفسي وحده لا يكفي. لأن الجرح ليس فقط على المستوى النفسي، بل في البنية المجتمعية أيضاً. البنية التي تنتج العنف وتؤمّن له بيئة آمنة ليزدهر: في العائلة، وفي المدرسة، وفي القضاء، وفي المجتمع الأوسع. حين يتكلم من تعرّض للأذى، لا يستردّ صوته وسرديّته فقط، بل يخلخل التابو حول التحرّش بوصفه عاراً وفضيحة تلاحق الضحية، بدلاً من الجاني.نرى ذلك من خلال التردد الذي يسقط فيه الداعمون للضحايا في اللحظة التي يوشك فيها الموضوع أن يصير علنياً: في حالة يوسف طبعاً، لكن أيضاً في حالة صديقه إسماعيل أو في حالة الصبية المعلمة في المدرسة. في كل مرة، يتصرّف المحيط بالشكل ذاته مؤثراً الانسحاب، ويُصبح فضح الاعتداء الجنسي، لا فعله، هو ما يُخيف الناس.مع ذلك، فالفضح ليس غاية في ذاته. إنه مدخل، في غياب آليات محاسبة موثوقة وعادلة. مدخل لتفكيك البنية التي يعمل داخلها المتحرّش. فحين لا يعود الحديث العلني عن العنف الجنسي مخيفاً، نكون قد نزعنا من يد المعتدي أحد أسلحته الرئيسية: الصمت. فالسكوت لا يحمي، بل يطوّع، ويمنح العنف شرعية ضمنية. والمسلسل، في لحظة نشر نيللي للحقيقة، يبيّن لنا أن كسر الصمت ليس فقط شجاعةً أو طريقةً للشفاء، بل خطوة أولى في مسار تفكيك النظام الذي ينتج هذا العنف ويسمح له بأن يستمرّ. خطوة أولى لا تكتمل إلا بالتعاضد بين الضحايا. فإذا كان كسر الصمت ضرورياً، فإن كسر العزلة بالأهمية نفسها. عزل الضحية وإسكاتها، لا يمكن مواجهتهما إلا بعكسهما: أي بالتعاضد والكلام.ذلك أن وسام ليس حالة فردية بل هو نموذج متكرّر، ينتقل من ضحية إلى أخرى، في غفلة من الجميع. ففي الحياة الحقيقية، وخلافاً للمسلسل، نحن لا نرى إلا بكاميرا واحدة. وحين لا نكون الضحية، فإننا لا نرى سوى الوجه اللطيف للمعتدي. من هنا أهمية الفضح، بوصفه آلية تفكيك، كاميرا إضافية، أو أكثر، لكي نرى الصورة كاملة: الشخصية، والمنظومة، والسلوك، والسياق.البُنية التي تنتج المعتديعاب البعض على المسلسل نفَسَه التوعوي، لكن ما الضرر في أن يُسائل الفن المجتمع ويعطي للضحايا صوتاً؟ وهو إذ يفعل ذلك هنا، إنما يفعله بشكلٍ متقن فنياً يرتقي بالصورة وبالسردية إلى مستوى من التعقيد يجعلها أكثر من محاضرة تعليمية.عرف المسلسل كيف يعرّي البنية النفسية والعائلية التي تُنتج شخصية كوسام، ويفكك طبقاتها المتشابكة الواحدة تلو الأخرى. أما مأخذي الوحيد، عليه فهو أنه يتوقف عند عتبة الطبقة الأخيرة، ولا يذهب أبعد في الكشف عن الطبقة الكبرى من دمية الماتريوشكا، تلك التي تحتضن وتحمي باقي الطبقات. أعني بها المنظومة الأبوية (لا أدري إن كانت سردية الأب السادي ستذهب أبعد)، المنظومة التي تمنح السلطة للرجل مسبقاً، وتُطوّع النساء والأطفال ليكونوا الطرف الأضعف، الجاهز للاستغلال والصمت. هذه هي الطبقة التي تسمح للعنف بأن يبدو استثناءً، فيما هو، في الواقع، نتيجة متوقّعة لمنظومة تُعيد إنتاجه باستمرار.