في خضم التحوّلات الجيوسياسيّة التي تعصف بالعالم، لا تزال فكرة “الحكومة السريّة” تثير تساؤلات حول الدور الذي تلعبه قوى خفيّة في رسم ملامح السياسات العالميّة وتوجيه مصير الدول. فبينما تبدو الحكومات الوطنيّة وكأنها تتحكم بمصير شعوبها، تتكشّف في الخلفيّة خيوط تحركات خفيّة تقودها منظمات ونُخَب اقتصاديّة وسياسيّة تعمل في الظلّ.
لطالما كان لبنان نموذجًا دقيقًا لكيفيّة تداخل المصالح الدوليّة والإقليميّة، والقوى العالميّة التي تلعب ضمن معادلات أوسع. فمنذ اندلاع الأزمة السورية، اتخذت الدول الكبرى سياسات تسعى من خلالها الى فرض رؤيتها على مستقبل المنطقة، حيث وثّقت تقارير استخباراتية وشهادات كبار الباحثين كيف حاولت الولايات المتحدة تصوير الحرب السورية كمجرد صراع مذهبي، في خطوة تهدف إلى إحراج حزب الله وإضعاف نفوذه. وكان دعم هذه الاستراتيجية واضحًا من خلال التشجيع الأمريكي والخليجي للجهات المعادية للحزب في الداخل اللبناني، وهو ما تجلى في تنفيذ سياسات اقتصادية عقابية/تأديبية وضغوط مالية خانقة.
لا تقتصر التدخلات الخارجية في لبنان على الجوانب السياسية فقط، بل تمتد إلى الاقتصاد والمساعدات الدوليّة التي أضحت أداة فعّالة للهيمنة. فمع تفاقم الأزمة الاقتصادية، باتت المنظمات الدوليّة توجه مساعداتها إلى المجتمع اللبناني بطريقة توحي وكأنها تعمل لصالحه، بينما تتكشف في العمق أهداف مغايرة. ففي عام 2020 وحده، تلقّت الوكالات الأمميّة او المنظمات التابعة للأمم المتحدة في لبنان 1.1 مليار دولار، ذهب الجزء الأكبر منها إلى مؤسساتها الداخليّة، بينما لم تحصل المنظمات غير الحكومية المحليّة اللبنانيّة إلا على نسبة هامشيّة وصلت الى 4 بالمئة فقط، حيث صُرفت مئات ملايين الدولارات على مساعدة ملايين اللاجئين السوريين في لبنان ووجودهم غير الشرعي. فرغم أهميّة الدعم الدولي، الا انّ آليات توزيعه جعلت منه آداة للهيمنة اكثر منه وسيلة انقاذ.
وتطرح هذه الأرقام أسئلة ملحّة حول مدى تأثير هذه المساعدات على الاستقلاليّة الوطنيّة، وما إذا كانت تشكل وسيلة للتحكم غير المباشر في مفاصل القرار السياسي والاقتصادي.
وعلى نطاق أوسع، يتحدث البعض عن وجود “حكومة عالميّة خفيّة” تدير شؤون بلدان الشرق الأوسط عبر أدواتها الاقتصاديّة والإعلاميّة والسياسيّة. يُشار إلى أن هذه الحكومة غير المرئيّة تتألف من نخب عالميّة، تشمل مؤسسات ماليّة ضخمة، ومنظمات سريّة مثل الماسونيّة، وأقطاب الاقتصاد الرقمي، الذين يرسمون السياسات الدوليّة وفقًا لمصالحهم. ويتمثل نفوذ هذه القوى في القدرة على تحريك الأسواق، وتوجيه الرأي العام عبر وسائل الإعلام، وتمويل النزاعات أو إنهائها وفقًا لما يخدم مشاريعها المستقبليّة.
وفي ظل هذه التداخلات، أصبح لبنان محاصرًا بين إرادات متضاربة، تحاول كل منها توجيه دفّته بما يخدم أجنداتها. فبين برامج إعادة الإعمار التي تموّلها الدول الكبرى، والمساعدات المشروطة التي تمنحها المؤسسات الدولية، يبقى السؤال الأكبر: هل يمتلك لبنان القدرة على استعادة استقلاليّته الفعليّة، أم أنه سيظل رهن التوازنات الدوليّة التي تتحكم بمصيره؟
يشير الواقع الحالي إلى أن التحرر من هذه الهيمنة يتطلب إعادة بناء المؤسسات الوطنيّة على أسس جديدة، قوامها الشفافيّة والحكم الرشيد والسيادة والقدرة على المناورة في المشهد الدولي. فغياب استقلاليّة القرار، سيُبقي لبنان عرضة للضغوط التي تمارسها القوى الكبرى، والتي لا ترى فيه سوى ورقة تفاوض ضمن لعبة أكبر تتجاوز حدوده، وتعيد رسم خريطة الشرق الأوسط بما يخدم مصالحها الاستراتيجية.
الكاتبة: البروفسورة وديعة الأميوني – باحثة واستاذة جامعيّة
The post الحكومات السريّة.. هل تتحكم قوى خفيّة بمصيرلبنان؟ بقلم: د. وديعة الأميوني appeared first on .