في فرنسا، دولة القانون، والمؤسسة الرسمية التي ترفع شعار المحافظة على قيم الجمهورية "اللائكية" الفرنسية العتيدة، والتي أسست لها ثورة 1789 وما حملته من قيمٍ ومعانٍ إنسانية، وخصوصًا منها التي تخص حقوق الناس عبر "إعلان حقوق الانسان والمواطن".. ورسخ جذورها فيما بعد قانون فصل الكنيسة عن الدولة الصادر سنة 1905، ستجري الشهر المقبل محاكمة الأستاذ الجامعي ومدير الأبحاث في المركز الوطني للبحوث العلمية المتقاعد، فرانسوا بورغا، المعروف دوليًا والمعترف به أيضًا كأحد المصادر الجادة في محاولة فهم النظم السياسية في الدول العربية والدول الإسلامية، والذي له أيضًأ باعٌ علميٌ في قراءة وفهم وتحليل أمور الشرق الأوسط والإسلام السياسي. كما الذي يحفل تاريخه العلمي بإدارته المتميّزة لعديد من مراكز البحوث الفرنسية المنتشرة في الدول العربية، فأقام في مصر وسوريا، ولبنان، واليمن، وفلسطين، وليبيا، والجزائر. إقامةٌ سمحت له بامتلاك أدوات المعرفة العميقة لمجتمعاتها وانظمتها السياسية والحركات المعارضة في لدنها. ومن أبرز إصداراته كتاب حفل بمختلف أوجه وأبعاد تجربته العلمية خلال سنوات ترحاله في مختلف الدول الإسلامية.والتهمة؟ بعد أن استدعي للتحقيق لمدة ثماني ساعات في قسم الشرطة المحلي: "الترويج للإرهاب". وقرر المدعي العام الذي يُمثل السلطة التنفيذية، إحالته إلى المحكمة والتي يقع عليها الحسم في كونه قد روّج للإرهاب أم لا. وهذه التهمة تعتبر تهمة جرمية تعادل الخيانة العظمى، يمكن أن يتعرض صاحبها إن تمت إدانته إلى عقوبة سجن مع غرامة مالية مرتفعة. وأين وجد المحققون ترويج فرانسوا بورغا للإرهاب؟ لقد ادعت عليه منظمة قريبة من الحكومة الإسرائيلية تسمى "المنظمة اليهودية الأوروبية"، بأنه غرّد على منصة إكس: "لدي احترام وتقدير أكثر لقادة حماس من قادة دولة إسرائيل". وهو رأيٌ يُناقش ولا يمكن له البتة أن يفتح ملفًا جنائيًا في دولة الحق والقانون والعدالة. والسؤال الذي يُطرح هو عن إمكانية المقارنة بين الطرفين، وهذا ما يصيب اللوبي المؤيد للسياسات الإسرائيلية بالجنون ويدفعها لمقاضاة من يجرؤ ويعبر عن رأيه. وللعلم، فقد قامت بهذه المقارنة المحكمة الجنائية الدولية عندما أصدرت مذكرات توقيف بحق بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يواف غالان، إلى جانب قائد عسكري من حركة حماس هو محمد ضيف.يتم استجواب بورغا بطريقة مهينة تليق بأنظمة عالم ثالثية، وتتم إحالته إلى المحكمة للإجابة عن تهمة صارت تهمة من لا تهمة له في زمن "محاكم التفتيش" الذي تعيشه فرنسا، على وقع ما يحصل من مقتلة في غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. تهمةٌ صارت مستهلكة إلى جانب تهمة أخرى، أشد عقاباً، وهي تهمة "معاداة السامية" والتي من الصعب إطلاقها بسهولة "الترويج للإرهاب" نفسها. وفي الوقت الذي تتم ملاحقة بورغا خلاله، يمنح رئيس الجمهورية وسام الشرف لباحثة اشتهرت بكتبها غير العلمية والتي تترجم من خلالها لمواقف ذاتية معادية للإسلام وللمسلمين. وتعتبر هذه الباحثة الجدلية، والتي يرد في كتاباتها رأيٌ وليس علمًا، من منظري اليمين المتطرف الفرنسي. إن محاكمة باحث جاد يحاول فهم الواقع واستقراء التجارب التاريخية مقابل منح وسام الشرف لباحثة تسخّر جل عملها لتجريم المسلمين ولترويع الفرنسيين من "احتلال" إسلامي مرتقب، هي رسالةٌ إلى الفرنسيين واضحة المآلات.منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والحقل البحثي الفرنسي خصوصًا، والأوروبي عمومًا، يعيش حالة من الإرهاب ومن الرهاب. قلق وخوف منتشرين لدى المتخصصين في العلوم الاجتماعية في هذا البلد. وفي تحقيقٍ أعدته جريدة الأومانيتيه الشيوعية أخيراً، تم أخذ آراء حوالى 20 باحثة وباحث حول الرقابة الذاتية التي يمارسونها في أثناء قيامهم بإنتاج المعرفة. واستعرض هؤلاء مختلف أنواع الضغط النفسي التي يتعرضون لها. إضافة إلى ذلك، فقد أشاروا إلى عقوبات متدرجة تنال منهم إن هم تجرؤا وعبروا عن آرائهم بطلاقة. إذ يتم اقتطاع أرقام عالية من ميزانيات معاهدهم، ليصير من الصعب عليهم الاستمرار بتنفيذ مشاريعهم العلمية. كما ويمكن لهم ان يتعرضوا إلى تأخير في رتبتهم الوظيفية، مما يؤثّر نفسيًا وماديًا عليهم. والمضحك المبكي في هذا التحقيق الصحافي، أن جميع من تم استجوابه من الباحثين فضّل عدم نشر اسمه الصريح خوفًا من العواقب التي يمكن أن تترتب عليهم في حال كشف هوياتهم.وفي المحصلة، يمكن القول إنه في فرنسا حقوق الانسان ومنارة حرية التعبير، تتم ممارسة ضغوط سياسية وأيديولوجية تجاه البحث والأبحاث والباحثين في العلوم الاجتماعية، وذلك من قبل فاعلين مؤثرين في المشهد السياسي، من دون حياء أو وجل. وفي جارتها سويسرا، تنهي جامعة لوزان تعاقدها مع الأستاذ الجامعي جوزيف ضاهر بسبب مواقفه الرافضة للإجرام المرتكب بحق الفلسطينيين في غزة. وفي جارتهما ألمانيا، يطلب سفير دولة إسرائيل، وبكل وقاحة، من مؤسسة علمية رسمية طرد أهم باحثاتها المتخصصات بالعالم العربي معتبرًا أن مجرد تعبيرها عن الحزن تجاه الضحايا المدنيين من الفلسطينيين هو تأييدٌ للقضاء على دولة إسرائيل.
من المستغرب، بل المستهجن، أن يقوم الأوروبيون الرسميون بالتعبير عن الأسف أمام طرد الترامبية الجديدة في أميركا للباحثين من جامعاتها لأسباب أيديولوجية، في حين أنهم يبررون اضطهادهم لباحثيهم للأسباب نفسها.
الحرية في خطر وأوروبا في خطر.