منذ اتفاق الطائف السعيد الذكر أي منذ العام 1989 والذي بدأ سريان مفعوله بتعاون سعودي سوري وبرعاية أميركية طبعاً لم تتوقف الأزمات السياسية اللبنانية، وبالرغم من أن الاتفاق جاء ليعلن وقف الحرب الأهلية إلا أن العثرات السياسية وما أكثرها لم تلبث أن بانت عليه، وظهرت معها علل عديدة كانت تؤدي إلى عدم تطبيقه، وحتى الجزء اليسير منه لم يُطبق إلا بتدخل مباشر من ال س-س، إلى أن انتهى القرار بإعطاء مراقبة التطبيق إلى الجانب السوري، التي كان لممثليها ولحكام عنجر اليد الطولى في مزاجية التطبيق، فكانت كل القرارات الرئيسية في الدولة من تعيين كبار الموظفين والوزراء وتكليف رئيس الحكومة وصولاً إلى انتخاب الرئيس، لا يمكن أن تحصل إلا برضى والي عنجر أي غازي كنعان ومن ثم رستم غزالي. وهكذا كان مصير الطائف أو لنقل ما بقي منه هو رهينة بيد عنجر طيلة حقبة وضع اليد السورية على لبنان. ولقد برزت حدة الأزمات مع استحالة حلها مباشرة بعيد الانسحاب السوري من لبنان، ومع غياب راعي اتفاق الطائف بانت عورات الاتفاق إلى العلن وظهر جلياً استحالة تطبيقه فبدا وكأنه وُضع كرمى لعيون ال س-س في البداية ومن ثم كرمى لعيون السوريين، الذين حكموا لبنان في مابعد "بصورة شرعية" بفضل الاتفاق المزعوم.
الطائف في صميم الدستور
وهكذا ومن دون لف ولا دوران أصبح الطائف أيقونة الدستور التي لا يمكن المس بها والتي أضحت ممراً إلزامياً لكل مسترئس أو رئيس، وهكذا حل الاتفاق ضيفاً دائماً على خطابات القسم وكل البيانات الوزارية لحكومات ما بعد الطائف. فالجميع عليه أن يقول فعل الإيمان بالاتفاق الذي أصبح بمثابة "النؤمن" عند المسيحيين و"الشهادتين" عند المحمديين، وهو حتى وإن لم يُطبق فعلى الجميع أن يقول "جهاراً" بضرورة تطبيقه أو كما يردد بعض رجال الدين الذين ما زالوا يفاخرون بتأييده، بضرورة استكمال تطبيق كامل بنوده. وكأني بهم أصبحوا علماء حقوقيين بعد أن كانوا علماء لاهوتيين فنصبوا أنفسهم مؤتمنين على الدستور بعد أن كانوا مؤتمنين على العقيدة. وهذا الاتفاق الذي وبالإذن من واضعيه ومع احترامي الشديد لحججهم ومراجعهم الدستورية، هذا الاتفاق وُضع وعلى ما يبدو كي لا يُطبق، وإلا فكيف نفسر عدم تطبيقه منذ أكثر من 35 سنة على وضعه؟ وكيف نفسر ضرورة وجود راعٍ أو لنقل ضابط إيقاع لكي يتم تطبيق النذر اليسير منه؟ فاصبحت الأمور اليومية للدولة بحاجة دائمة إلى من يرعى تطبيقها، فكيف بالأمور العظام؟.

 

الطائف ولنقلها بالفم الملآن بحاجة إلى تعديل
الاتفاق الهرم الذي بدأ يتداعى أصبح بحاجة إلى ترميم أو بالأحرى إلى تعديل، ونحن لا نجدف إذا قلنا ذلك فكل الدساتير تعدل وفقاً للظروف ووفقاً لحاجة المجتمع وتطوره، فلبنان الذي استوحى دستوره من الدولة الفرنسية يعيش في ظل دستور الجمهورية الثالثة في فرنسا، أما فرنسا فأصبحت تعيش في ظل الجمهورية الخامسة، وكل يوم تشهد فرنسا على تعديلات دستورية عديدة. هذا إذا أردنا التمسك باتفاق الطائف كبند من بنود الدستور ولكن السؤال هل ذلك يكفي؟ هل العمل بالدستور القديم بكافة بنوده كافٍ لحماية لبنان ونظامه والحؤول دون الوقوع في المطبات السياسية والدستورية عشية كل استحقاق؟
لبنان نحو الدولة المدنية
إن ترقيع الثوب القديم لن يجعل منه جديداً وإن تعديل الدستور لا يمكن أن يجعل منه حديثاً، فالحداثة تتطلب أكثر من ذلك بكثير، إن لبنان بحاجة إلى نظام جديد لكي يتمكن من الاستمرار وهو بحاجة إلى دولة جديدة لكي يستطيع الدخول إلى المئوية الثانية، فلبنان الكبير ليس شعاراً والدخول إلى المئوية الثانية للبنان الكبير لا يمكن أن تتم إلا من ضمن رؤى جديدة وحديثة. إننا وأكثر من اي وقت مضى بحاجة إلى إرساء الدولة المدنية بكل مندرجاتها، هذه الدولة وحدها تشكل الحل لانتخاب رؤساء الجمهورية وتكليف رئيس الحكومة وتعيين الوزراء والخروج من لعبة المحاصصة التي حل عليها ضيفاً جديداً سمجاً ألا وهو "التوقيع الثالث". إنه ومع وجود رئيس غير سياسي ورئيس حكومة أكاديمي ومع كل الدعم الدولي لهما، لا بد من الاستفادة من كل ذلك لإعلان الدولة المدنية، بحيث نقوم بإلغاء الطائفية وفصل الدين عن الدولة وإنشاء دولة المواطنة بعيداً عن دولة المزرعة والمحاصصة والمحسوبيات. وكما قال أبي التنوير المعلم بطرس البستاني منذ أكثر من 165عاماً، وحدها الدولة المدنية باستطاعتها إنقاذ لبنان.

كاتب سياسي-