طوني عيسى -

«إذا أردنا أن نعرف ماذا في عقل نتنياهو، علينا أن نعرف ماذا في عقل ترامب». والعكس صحيح. هكذا، وعلى طريقة مقولة نهاد قلعي الطريفة، يمكن التفكير في ما ينتظر لبنان وسائر المشرق، من اليوم وحتى انتهاء ولاية السنوات الأربع، على الأقل.

ثمة متغيرات إقليمية ودولية يجدر باللبنانيين أن يتنبّهوا إليها، ولعلّ أبرزها هو تغيير طهران لسلوكها في التعاطي مع الأميركيين في الفترة الأخيرة، بعدما أدركت أنّ أسلوب المواجهة سيقودها إلى الخراب. ولذلك، هي تطلق الإشارات العاجلة إلى استعدادها لإبرام اتفاق جديد حول برنامجها النووي. إلّا أنّ أولوية الأميركيين والإسرائيليين في الواقع هي إنهاء نفوذ إيران الإقليمي، وفي الدرجة الثانية يأتي النووي.

على مدى 16 شهراً مضت، أخطأ الإيرانيون في القراءة. ففي 7 تشرين الأول 2023، أطلقوا مساراً اعتقدوا أنّه سيتكفّل بفرض حضورهم على طاولة التسويات التي بدأ تحضيرها في الشرق الأوسط. فأوكلوا إلى حلفائهم في غزة ولبنان أن يوجّهوا رسائل قاسية إلى إسرائيل والولايات المتحدة بالوكالة عنهم. وافترضوا أنّ أعداءهم سيفهمون هذه الرسائل سريعاً ويرضخون. لكن ما جرى خالف التوقعات. وأصيب هؤلاء الحلفاء بضربات قاسية جداً، ما جعل طهران أمام احتمال القتال مع أعدائها مباشرة لا بالواسطة. وهذا الأمر قد يجعل قدراتها الاستراتيجية ونظامها في مهبّ الريح. ولذلك، بدأت تتصرّف براغماتياً، ولو متأخّرة.

في المنتدى الدولي الأخير في دافوس، عبَّر الخبير المحنك بالشؤون الأميركية، محمد جواد ظريف، عن هذا التوجّه. ويبدو انّ دونالد ترامب في صدد ملاقاة هذا التوجّه، رغبة منه في التقاط الفرصة لإبرام صفقة مع إيران، تنطلق من الاقتصاد والمال وتتمدّد إلى الأمن والسياسة. فالرجل أعلن صراحة أنّه يتوق إلى تعميم الصفقات في الشرق الأوسط، بدءاً بصفقة مع الخليجيين العرب تقارب الـ500 مليار دولار كتلك التي أبرمها معهم في مطلع ولايته السابقة. كما يطمح إلى استثمارات وخطوط نقل تمتد من الهند إلى حيفا، بحيث يصبح الإقليم واحة استثمار ونفوذ للولايات المتحدة وحدها، ما يقطع الطريق على الصين أو أي قوة دولية أخرى. أي إنّ ترامب لا يمانع في مغازلة إيران بدلاً من ضربها إذا أبدت تجاوباً في الاتجاه الذي يخدم مشروعه. وهذا الرهان قيد التجربة حالياً.

لكن ما تجدر الإشارة إليه هنا هو أنّ الخسائر التي تكبّدتها أذرع إيران الإقليمية لم تعد قابلة للمراجعة. فحلفاؤها في غزة ولبنان لم يعودوا مؤهلين للمسّ بإسرائيل كما كانوا قبل الحرب. وأما في سوريا فأزيحوا تماماً عن الخريطة. ويُعتقد أنّ إيران ستتجنّب حتى إشعار آخر الاستعانة بحلفائها المتعبين، حتى لا تقامر بمصيرهم. لكنها، إذا تعرّضت لمأزق حقيقي في مواجهة إسرائيل والأميركيين، لن تتورع عن طلب دعمهم في غزة ولبنان واليمن، بما بقي لهم من قدرات. وهذا سيشكّل تحدّياً مصيرياً لهم: الحياة أو الموت.

تحتاج طهران إلى هؤلاء الحلفاء، أياً تكن طبيعة التطور المنتظر في علاقاتها مع الولايات المتحدة. ففي حال الصدام العسكري سيكونون متراسها المتقدّم، وفي حال التسوية سيكونون أوراق ضغط ميدانية لتحسين الشروط. شوهذا ما يبرر رغبة هؤلاء الحلفاء في الاحتفاظ بما أمكن من قدرات ونفوذ سياسي وأمني ومالي. وهذا ما يفسّر رفض «حزب الله» لأي تغيير في توازنات القوى الحالية، من خلال اتفاق وقف النار، ولو كان هو نفسه قد أقرّ به ووقّعه، تحت وطأة الضربات الإسرائيلية، من الجنوب إلى الضاحية الجنوبية لبيروت فالبقاع.

كما يوضح هذا الأمر بطء الجانب اللبناني في التعاطي مع الاتفاق جنوب الليطاني، خلال مهلة الـ60 يوماً. وقد استغل الإسرائيليون هذا البطء بخبثهم المعهود ليطيلوا فترة احتلالهم. وليس مضموناً أن تغادر إسرائيل الجنوب تماماً بعد نحو أسبوعين من الآن، خصوصاً بعدما اتخذ الوضع الميداني طابعاً تصعيدياً خطراً في الأيام الأخيرة، إذ وسّع الإسرائيليون رقعة ضرباتهم شمالاً وشرقاً ورفعوا من وتيرة تهديداتهم. وفي المقابل، تحدثت إسرائيل عن استخدام «حزب الله» لإحدى المسيّرات فوق الحدود. وفي هذه المناخات، لن يكون مستبعداً أن ينزلق الجميع إلى الحرب الكبرى مجدداً، خصوصاً إذا كانت إسرائيل تخطط لتحقيق أهداف معينة غير معلنة. وللتذكير، ومنذ اللحظة الأولى، هي أكّدت أنّ اتفاق وقف النار هو مجرد هدنة وليس نهاية للحرب.

ما قد يحسم الاتجاهات هو اللقاء البالغ الأهمية في واشنطن، يوم الثلاثاء، بين ترامب ونتنياهو الذي سيكون أول زعيم أجنبي يدعوه ترامب إلى البيت الأبيض. وهذا أيضاً له دلالاته. فبعد الاجتماع يمكن أن تظهر الخطوات سريعاً في لبنان، سواء نحو التسوية في الجنوب أو نحو الحرب. ولكن، في الانتظار، يسأل كثيرون عن مغزى استعجال ترامب تزويد إسرائيل القنابل الـ1800، من طراز MK-84، زنة 900 كلغ، التي جمّدها جو بايدن. وقد بات تسليمها وشيكاً.