في الأول من آب الماضي، أي بعد يومٍ واحد فقط من الاستهداف الإسرائيلي "الأول" في الضاحية الجنوبيّة واغتيال القياديّ فؤاد شكر، امتصّ السكان الصدمة سريعًا. رجعوا إلى منازلهم المجاورة، فُتحت المحال التجارية بشكل طبيعي، عادت زحمة السير المعتادة، واكتظاظ السكان. آنذاك، كانوا على يقينٍ، أن الرد الإسرائيلي إنتهى، ولن تتجرأ إسرائيل مرةً أخرى على استهداف الضاحية الجنوبيّة.
الاستهداف الثانيالعشرون من أيلول الجاري، الثالثة والنصف ظهرًا، أغار الطيران الإسرائيلي على الضاحية الجنوبيّة، استهدف فيها مبنى سكنيًا مؤلفًا من سبعة طوابق، دمّره بالكامل، ثم أطلق الصاروخ الثاني على الطوابق السفلية في المبنى المُلاصق له، حيث كانت تجتمع مجموعة من فرقة الرضوان مع القيادي إبراهيم عقيل، حسب المعلومات المُتداولة.
دوّي رهيب، اهتزت المباني بقاطنيها، تصاعد الدخان الأبيض، ظنّوا -للوهلة الأولى- أن السماء وقعت فوق رؤوسهم، أم أنه "يوم القيامة"، كما وصفه عشرات السكان، أحياء تحت الردم، أطفال مفقودة، جثث، صراخ متواصل، الكثير من الأشلاء، دمار وغُبار..دنا الموت من السكان على حين غرّة. قهر متواصلهذه المرّة، كان الاستهداف الإسرائيلي يبعُد عن منزلي بضعة أمتارٍ، كُنت في شارع الحمراء. هاتفيًا، أبلغتني والدتي أن إسرائيل أغارت خلف منزلنا ولم يصب العائلة أي مكروه، طالبةً مني البقاء في شوارع بيروت، فيما اتصلت شقيقتي الصغرى وهي تبكي، تُريد الخروج من المنزل، تُريد النجاة. استغرق الوصول إلى منزلي أكثر من ساعة ونصف الساعة، رحلة طويلة جدًا، زحمة سير خانقة، تدابير أمنية مشددة، وصوت سيارات الإسعاف يرتفع أكثر فأكثر.
بالقرب من مكان الاستهداف، ملامحُنا مُتشابهة، جميع سكان المبنى يحملون حقائبهم، يريدون التوجه نحو أماكن أكثر أمنًا، يرددون عبارات مُتشابهة في المعنى؛ "الحرب بدأت، الضاحية الجنوبيّة صارت بنكًا لأهداف إسرائيل".
عند مداخل المباني، تتجمع النسوة، يحملن الأطفال. والرجال ينقلون الحقائب والصناديق إلى السيارة؛ فرش اسفنجية، ألعاب، أكياس من الأدوية، القليل من الفواكه والمعلبات الغذائية.حملوا كل لوازمهم الضروريّة، ولكن في هذه المنازل، كل شيء مهم من دون استثناء.
أمام الركام، يجلس رجل في منتصف العمر، يبكي باحثًا عن قليل من الأمل تحت الأنقاض، يكرر عبارة واحدة فقط "ماتت عائلتي، بيتي تدمّر، زوجتي وطفلتي تحت الأنقاض...". وبجانبه، إمرأة تبحث مع فرق الإنقاذ عن طفلتها المفقودة، تصرخ بصوت يرتجف اسم ابنتها، لعلها تجيبها، لكن، تحت الركام لا شيء سوى رجع صدى موت غادر. بانتظار التسوية الكبرىطيلة الأشهر الماضية، تعايشت مع الحرب وكأن شيئًا لم يكن. لكنها المرة الأولى، منذ الثامن من تشرين الأول، التي فشلت فيها بامتصاص دمعتي وشعرت بقهرٍ وعجزٍ، حين حملت حقيبة الطوارئ الخاصة بشقيقتي الصغرى، التي لم تتجاوز بعد العشرين عامًا، وبداخلها صورًا لها حين كانت طفلة في الثالثة من عمرها. دفعني الفضول لمعرفة أهمية هذه الصور في هكذا ظروف استثنائية، فأتى الجواب سريعًا "هذه الصور للذكرى...في حال تدمّر المنزل".
قضيت جزءًا من طفولتي في منطقة الباشورة، بالقرب من منطقة برج أبي حيدر، ومن ثمّ انتقلت وعائلتي إلى الضاحية الجنوبيّة. في هذه المدينة وتحديدًا في محيط القائم، قضيت أكثر من 25 عامًا، في مدارسها وبين أهلها. الأيام الماضية، وما حملته من مشاهد لدمار الضاحية وخلوها من سكانها، يُماثل آثار حرب تموز العام 2006. والذي بات مؤكدًا اليوم، أن الخروج منها موجع ولكنه أمر لا مفر منه.
هكذا خرج أهالي الضاحية الجنوبيّة من منازلهم البارحة، متمسكين بذكريات قضوها وعاشوها داخل منازلهم. الكثير منهم لم يحددوا وجهتهم، أرادوا فقط الخروج من الخراب لفترة مؤقتة، ملامحهم متشابهة، تكاد أن تنطق "أما آن لهذا الكابوس أن ينقضي؟".
في الواحد والعشرين من أيلول الجاري، أي بعد يومٍ واحد فقط من الاستهداف الإسرائيليّ الثاني في الضاحية الجنوبية وتحديدًا في حيّ القائم، والذي نتج عنه اغتيال القيادي إبراهيم عقيل، ومجموعة من فرقة الرضوان، تبدّل المشهد كليًا عما كان عليه. أو بمعنى أوضح، لم يعد شيئًا كما كان في السابق. مئات العائلات غادرت الضاحية الجنوبية يوم أمس، بانتظار التسوية الكبرى، أو الحرب الكبرى.