تؤكِّد سيّدة في اتصال هاتفي، أنها "تعرض بضائع للبيع"، ليتبيَّن أنها مواد غذائية وصلت إلى لبنان كمساعدات إغاثية للنازحين في ظل الحرب الإسرائيلية المستمرة. وبالتوازي، أطنان من المساعدات عالقة في مخازن مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت. فضلاً عن مساعدات أخرى خرجت من تحت عباءة الهيئة العليا للإغاثة ووُزِّعَت في المناطق، لكنها لم تصل للنازحين الذين اتّهَمَ بعضهم الجهات المعنية بتوزيع المساعدات، بالسرقة، فيما البعض الآخر فَضَّلَ عدم الاتهام المباشر، فطرَحَ الأسئلة بانتظار الإجابات، لكن لم تغب التجارب السابقة عن بال هؤلاء، وأبرزها توزيع المساعدات في حرب تموز 2006 وتَلَف مساعدات الطحين العراقي في العام 2020، قبل توزيعه.
نماذج التجاوزات كثيرة، لكنها تلتقي عند نقطة واحدة، وهي استمرار معاناة النازحين مع غياب الخطط المفترض أن تُعدَّها الدولة استباقاً للظروف الطارئة، وفي مقدّمتها الحروب، وتدير وفقها عمليات الإغاثة لتصل إلى النتائج الإيجابية المرجوَّة التي تخفِّف عن النازحين وطأة الظروف الصعبة.فوضى التخزين والتوزيعارتفع منسوب حاجة لبنان لمواد إغاثية مع زيادة معدّل النزوح من الجنوب إثر توسيع العدوّ الإسرائيلي حربه منذ نهاية أيلول الماضي. فتسارعت عمليات وصول المساعدات عبر مطار ومرفأ بيروت، حتى وصل حجم المساعدات التي تلقّاها لبنان إلى "نحو 10 آلاف طن"، وفق ما أكّده منسّق لجنة الطوارئ الحكومية وزير البيئة ناصر ياسين، يوم الاثنين. لكن لم تصل كل تلك الأطنان بعد، إلى مستحقيها.
وعلى ضوء التقارير الإعلامية والتجارب الفردية والجماعية التي ينشرها بعض المواطنين على وسائل التواصل الإجتماعي، توثيقاً للتجاوزات التي ترافق عملية توزيع المساعدات على النازحين، طَلَبَ الناشط الحقوقي والسياسي المحامي علي عبّاس، جداولَ توزيع المساعدات، من الهيئة العليا للإغاثة ولجنة الطوارىء، لتصله "جداول بعيِّنة من المساعدات" وفق ما أكّده لـ"المدن".وإلى جانب الجداول المرسَلة، يبيِّن الموقع الإلكتروني للهيئة، جداول توزيع مساعدات إلى مراكز الإيواء والبلديات في مختلف المحافظات. لكن المشكلة لا تتعلَّق بالتشكيك في توزيع الهيئة لتلك المساعدات، بل تبدأ -حسب عباس- من "آلية التوزيع الخاطئة التي اعتمدت على المحافظين والبلديات والمخاتير. فهؤلاء في أغلبهم يتبعون أحزاباً في السلطة، مما يفتح المجال أمام المحسوبيات في عملية التوزيع، وإن لم يكن بشكل مباشر وعلنيّ. فتلك الجهات تسلِّم المساعدات لموظفيها الذين يقومون بتوزيع لا يخلو من الاستنسابية. كما أن الكثير من مناطق البقاع بلا مجالس بلدية، مما يجعل عملية التوزيع الاستنسابي أكبر". ولذلك، يقترح عباس أن تسلِّم الهيئة العليا للإغاثة عملية التوزيع للجيش اللبناني الذي يضمن توزيع كل المساعدات بعيداً من المحسوبية".في الوقت نفسه، يرى عباس ما هو "أخطر من التوزيع الاستنسابي، وهو تخزين المساعدات في المطار وتأخير إخراجها وتوزيعها، وبعض التأخير نتيجة الخلافات الداخلية لدى بعض الجهات اللبنانية التي طلبت المساعدات. بالإضافة إلى مساعدات أخرى تُلِفَت بسبب سوء التخزين في المطار".وما يفاقم الوضع أكثر، هو وقوع منطقة بعلبك ضمن دائرة النزوح، بعد الجنوب، الأمر الذي يستدعي إيصال المزيد من المساعدات في أسرع وقت إلى تلك المنطقة. والسرعة مطلوبة لأن "هناك احتمالات بأن يقطع العدوّ الطرقات، فيبقى النازحون بلا مساعدات، سواء الذين نزحوا إلى مراكز الإيواء أو الذين استأجروا بيوتاً أو تم استقبالهم مجاناً في بيوت أخرى، فهؤلاء جميعهم بحاجة لمساعدة إغاثية عاجلة".عدم سدّ الثغراتتتيح جداول لجنة الطوارىء والهيئة العليا للإغاثة، عملية التأكّد من إيصال المساعدات إلى وجهتها، لكنها لا تتيح التأكّد من حصول كل النازحين عليها، ولا تحلّ مشكلة التخزين والتلف أو المتاجرة بالمساعدات، والتي جرى توثيق إحداها، إذ تواصلت "المدن" مع سيّدة تعرض على موقع "فيسبوك"، 6 علب كرتونية تحوي مواد غذائية بسعر 5 مليون ليرة، ومن خلال الصورة المرفقة مع الإعلان، يظهر أن تلك العلب عبارة عن مساعدات إغاثية. وتؤكِّد السيّدة أنها ليست صاحبة المواد وإنما هي "تعرض سلعاً مختلفة للبيع "أونلاين"، وبناءً على طلب أصحاب هذه العلب الكرتونية، تم عرضها للبيع على الصفحة. لكن بعد سيلٍ من الانتقادات كونها تبيع مساعدات غذائية، تراجعت عن الترويج لهذه العملية". وهذه الحالة، هي واحدة من حالات كثيرة توثِّق بيع مواد غذائية أو فرش أو حرامات، ما يدل إما على سوء تقدير للأوضاع المادية للنازحين أو سوء تقدير لنوع المساعدات التي يحتاجونها.
الجانب الإيجابي للجداول التي تظهر حجم المساعدات الواصلة إلى لبنان وتلك التي تظهر حركة التوزيع، يكمن في تبيان حجم المساعدات التي لم تُوَزَّع بعد، والتي وُزِّعَت لكنها لم تصل إلى النازحين، مما يسمح بمعرفة كمية المساعدات التي قد تكون مخفية في مستودعات جهات معيَّنة، خصوصاً المساعدات المهمة والغالية الثمن، كالخِيَم، وهذه المساعدات يمكن إحصاؤها والتأكّد من استفادة النازحين منها، إذ يمكن عدُّها ومراقبتها على أرض الواقع.وتعليقاً على ما يحصل أو يُشاع، يؤكِّد ياسين أن "لا مساعدات تُخَزَّن في مطار بيروت، وما جرى هو حادثة إستثنائية تتعلّق بإحدى الشحنات وجرى حلّ المشكلة". ويشير ياسين في حديث لـ"المدن" أن "المساعدات توَزَّع عبر المحافظين واتحادات البلديات والإدارات المحلية، ما يعني أن لا وجود لأي تأخير في التوزيع". ويلفت النظر إلى أن "حجم المساعدات الآتية للبنان ضئيل ولا يستدعي تأخير التوزيع. فالمساعدات تشكِّل نحو 15 بالمئة من الحاجات المطلوبة للنازحين، ويذهب أغلبها لمراكز النزوح".مع أنّ هدف الحكومة من وضع ما أسمته خطة الطوارىء الوطنية، هو "حماية اللبنانيين واللبنانيات من تداعيات عدوان إسرائيلي موسَّع"، إلاّ أن ما أُعِدَّ وما نُفِّذ لم يتوافق مع حجم الكارثة. فعلى الأقل، لم تتمكَّن الدولة من تأمين أماكن إيواء بالعدد الكافي، ولم تُجَهِّز المتوفِّر منها بالمستلزمات المطلوبة كمّاً ونوعاً. كما ليس لدى الدولة أماكن ملائمة لتخزين المواد الغذائية وغيرها، ما يعرّضها للتلف السريع. وليس الأمر مفاجئاً لأحد. فالأمر نفسه تكرَّرَ في تموز 2006 بالنسبة للمساعدات ولاحقاً التعويضات المالية بعد الحرب. وأيضاً لم ينسَ أحدٌ سوء تخزين 700 طن من الطحين العراقي في المدينة الرياضية في العام 2020، والتي أتت كمساعدات للناس إثر تفجير مرفأ بيروت. وذلك الطحين تُرِكَ يومها لمياه الأمطار والأوساخ والقوارض... على أنَّ كل ما سبق، يأتي في سياق استهتار الدولة ومتاجرتها بنكباتنا.