"النَّعَامَةُ : طائرٌ كبيرُ النَّعَامَةُ الجسم طويلُ العُنق والوظيف، قصيرُ الجناح، شديدُ العَدْو"شديدة العدو، وشديدة التيه، كانت النعامة التي رأيناها تجري في شوارع بلدة جنوبيّة مقفرة، عبر فيديو متداول في مواقع التواصل الاجتماعي. مرّة يرافقها لحن حزين يفطر القلب، ومرّة أخرى لحن مرِح من مسلسل Pink Panther الذي ارتبط في ذاكرتنا بمقالبٍ طريفة ومحبّبة. في الحالتين، الصورة أقرب إلى مقلبٍ تراجيدي بطله طير تائه.
"خَفَّتْ نعامَةُ القوم: ذهبواوشالت نعامتُه: مات"مفارقات هذا المشهد كثيرة، فكلّ شيء فيه في غير موضعه. بعدما ذهب القوم، ومات بعضهم، خلت المدينة من ناسها لتسرح فيها البهائم مذعورةً. وسط هذا العبث، يحضر شعور عميق بالتماهي مع البهيمة. فكيف لا؟ وكلنا -أي المُشاهدين والنعامة- كائنات بلا حيلة أو قرار، تعدو هرباً من جحيم لها ناقة لها فيه ولا جمل. لكن إلى أين؟"بَيْض النَّعام: يضرب مثلاً في الضياع"تستطيع النعامة أن تقطع 70 ميلاً في الساعة، فأين تصل بعد ساعة او اثنتين؟ هل تتحرّك شمالاً فتصل إلى بيروت؟ أم جنوباً لترتمي بين ذراعي العدوّ؟ إلى أين تأخذها غريزة البقاء؟"نفرت نعامتُه: فزِع من شيء أو مات"ما نعرفه عن النعامة، ذلك الطير العاجز عن الطيران بسبب كبر حجمه، أنّه يخبّئ رأسه في الأرض حين يخاف. وبدلاً من الهرب، يستلقي على ظهره اذا ما تحسّس الخطر، تظاهراً بالموت. فكم خبّأت النعامة رأسها تحت الرمل قبل أن تدرك أن التظاهر بالموت لن يقيها شرّه؟ وماذا رأت حتى تهمّ بالعَدوِ على هذا النحو المحموم؟"خفيف النَّعامة: ضعيف العقلمِثْل النَّعامة لا طَيْر ولا جَمَل: المرء لا ينفع في عمل يوجَّه إليه"تمتلك النعامة أكبر عيون بين الحيوانات البرية، أكبر حتى من عقلها، وهذه مأساة ثانية بعد جناحيها العاطلين عن الطيران. كم من الفظائع عاينتها هذه العيون في الشهر الماضي؟ وهل أدرك عقلها ما تبصره؟ رأى هذا الطائر، وكذلك الحصان الذي شاهدناه يعدو في تسجيل آخر، ومثلهما آلاف الحيوانات الأليفة والمفترسة التي تُركت لمصيرها في الجنوب المهجور، ما خفي عن أبصار أهل الأرض منذ اغترابهم عنها. كيف سنواجه هذه العيون عند (في حال) عودتنا؟ سيكون من الصعب النظر اليها، وفيها انعكاس مدننا المدمّرة، وأرضنا المحروقة، وبيوتنا المهجورة، وأشجارنا العطشى، وطرقنا الموحشة. هل تساءلت النعامة يا ترى عن جدوى جناحين لا تستطيع الطيران بهما بعيداً من كلّ هذا الخراب؟"جاء كالنَّعامة: رجع خائبًا"يشتدّ في فترات الحرب تماهي الإنسان مع البهيمة، خصوصاً حين تتقلّص الحياة إلى جوانبها الأكثر بدائية، كغريزة البقاء. فما الذي يبقى من انسانية المرء حين تتلاشى إرادته حدّ الانتفاء، فيجد نفسه عاجزاً عن الإفلات من عبثٍ يحاصره؟تعاني البهائم، مثلنا تماماً، لكن بصمت، ومن دون القدرة على فهم أسباب معاناتها أو التأثير فيها. لقد طوّر البشر حضارة قادرة على مواجهة العبثية المتأصلة في وجودهم بآليات نفسية وإجتماعية، فشرعوا باختراع آلهة ترسي العدل حيث فُقِد، وقضايا تنصر المظلوم حيث وُجِد، وأنظمة أخلاقية تمدّ صراعاتهم بمعاني الصمود والتضحية والمقاومة. أما الحيوانات، فتظلّ عالقة في معاناتها، في لحظة الذعر المتواصلة التي نسمّيها حياةً، غير قادرة على إيجاد العزاء، سواء في الفلسفة أو في الدين.إن هذه المعاناة الصامتة ما هي إلا تجسيد لعبثية الحرب، ولحقيقتها التي تتلألأ ذعراً في عيون نعامةٍ تائهةٍ، عن معاني الحرب وذرائعها. هذه الحقيقة تقف على النقيض التام من كلّ نتاج حضاري، وتحديداً قدرة البشر على عقلنة ما لا يدخل في العقل، وتحريف الواقع بوعودٍ خائبة عن جنّةٍ منتظرة أو نصرٍ مؤجّل. لا إله تنتظره النعامة ولا نصر. ما تعرفه عن عنف البشر، حملها على الجري إلى حافّة الكون. فمن يا ترى الذي يدفن رأسه في الرمل؟"شالت نَعامةُ القومِ/ خفَّت نَعامةُ القوم: تفرَّقت كلمتُهم، وذهب عِزُّهم واستمر بهم السّير"قليلة هي المشاهد التي ترسم استعارات مثالية لواقعنا المعاش. وإن كان لهذه الحرب من استعارة، فهي صورة النعامة التائهة. تستحضر هذه المشهدية حال وطنٍ دفن رأسه في الرمل طوال عقودٍ اختمرت خلالها الأزمات والحروب. حتى استفاق فجأة على هول المصيبة وبدأ يعدو بلا وجهة. ننظر في عينيّ النعامة فيصفعنا شعور مروع بتقاسم التجربة والمصير. تقشعرّ أبداننا حين ندرك أننا أكثر تشابهاً ممّا كنّا قد اعتقدنا حين أشفقنا على كائناتٍ لا تملك قدرها بيدها.