تجرّ الحرب القتل والدمار، وجملة من المآسي التي لا توفّر أحداً، كما هو معلوم. صحيح أن ثمة من يتأثر مباشرة بنتائج الحرب، وفي شكل جارح. أبلغ دليل على ذلك هو ذاك العدد الهائل من النازحين الذين هجروا بيوتهم في غير منطقة لبنانية، من تلك المناطق التي طاولها العدوان الإسرائيلي، وحوّل بيوتها دماراً ورماد.
لكن الحرب تودي بأشياء أخرى أيضاً، ومن ضمنها الأعمال الفنية في مجملها وتنوعها. تعجّ صفحات التاريخ بذاك الكم الكبير من اللوحات والمنحوتات ونتاجات الفن الأخرى، التي اختفت وضاع أثرها في الصراعات المسلّحة. أكثر من 30 ألف عمل فني ضاع، إمّا بسبب القنابل والدمار، أو السرقة، في الحرب العالمية الثانية وحدها، ناهيك بحروب أخرى دارت رحاها في مناطق عديدة من العالم. وتجدر الإشارة، على سبيل المثال، أن أعمالاً لفنانين عالميين من المستوى الرفيع كانت اختفت من قصور أثرياء الكويت، إبان الغزو العراقي صيف 1990.
أما في ما يخص بلدنا، فلا شك في أن الحرب الأهلية كان لها دور لا يمكن تجاهله في حدوث مسائل من هذا النوع، ناهيك بما أحدثه الصراع العربي - الإسرائيلي من خراب على الأرض اللبنانية وانفجار مرفأ بيروت الذي اصاب الكثير من اللوحات المهمة وسميت "اللوحات الجريحة". الفنان اللبناني الراحل زعل سلوم (1945- 1996) كان لمع اسمه بداية سبعينات القرن الماضي، وقد تنبّأ له العارفون بمستقبل فنّي بارز. إطلع الفنان على مختلف التيارات الفنية الحديثة. كان سلوم يرسم بلغة الطبيعة والموسيقى والشعر. حفظ جبران خليل جبران في مرحلة دراسته التكميليّة، ونفّذ رسوماً من وحي نتاج الكاتب، ولكن عندما خُيّر بين الرسم والشعر، وجد نفسه رسّاماً. كان يعشق الموسيقى، بحيث كان من المستحيل عليه أن يرسم من دون سماع الموسيقى التراثيّة الكلاسيكيّة. رسم سلوم بأساليب متنوّعة مستوحياً الجنوب وقراه، لا سيّما الحيّ الذي نشأ فيه: حيّ السراي في النبطية. رسم البحر والطبيعة والخيل والمرأة، كما كان موضوع الحرب الأهلية إحدى الموضوعات التي حاول معالجتها.
لكن "المأساة" وقعت في آذار 1977، حين سقطت قذيفة إسرائيلية على مرسمه في النبطيّة، ما أدّى إلى تدمير 75 لوحة كان الفنان جهّزها من أجل معرض له في عمّان، بناء على دعوة وجهها له حينذاك مدير العالية. إلى ذلك، واستكمالاً للحكاية الدراماتيكية، أصابت قذيفة منزل العائلة في منطقة الحمرا ببيروت، العام 1988، ما أدّى ذلك إلى تمزّق عدد من اللوحات، كما سُرق عدد من أعمال الفنان، الذي توفي في العام 1996 بعد معاناة طويلة مع المرض.
على أن الحدث الأقرب إلينا زمنياً، والذي لم يمضِ عليه سوى أيام معدودة، هو حال أعمال الفنان اللبناني الراحل عبد الحميد بعلبكي (1940- 2013) وكتبه أيضاً. كان الفنان آثر العزلة الإرادية طوال 13 عاماً، مقيماً خلال سنوات حياته الأخيرة في منزله ببلدته العديسة، التي كان محروماً من زيارتها منذ العام 1978، ما دفعة للإنتقال، من دون رغبة كبيرة، إلى بيروت إلى أن تم تحرير الجنوب، العام 2000. ومن شدّة تعلّقه بالمنزل، فقد دُفن فيه عند رحيله، ودُفنت زوجته إلى جواره، تنفيذاً لوصيته. هذا، وقد سُمي الشارع المؤدي الى المنزل بإسمه. وقد كان بعلبكي من أبرز الفنانين التشكيليين الذين جسّدوا الحرب الأهلية في جداريات، ومن أبرز الأصوات المناهضة للحرب والقتل، ومع ذلك، فقد احترقت مكتبته مرتين سابقاً، علماً أن المكتبة تحتضن عشرات الكتب باللغات الأرمنية والروسية والإيطالية، وهي لغات كان يتقنها بعلبكي.
أمّا المرة الثالثة، والأكثر مأسوية، التي أدّت إلى احتراق الكتب واختفائها، فقد جاءت نتيجة لتفجير المنزل في العديسة، من ضمن حي سكني، في الفترة الأخيرة، على أيدي الجيش الإسرائيلي، لتوازي همجيته همجية هولاكو الذي أحرق جيشه بيت الحكمة ببغداد، العام 1258، وألقيت الكتب في نهري دجلة والفرات، حتى يُقال إن ماء نهر دجلة تحوّل إلى الأحمر والأزرق، بفعل دماء القتلى، وحبر الكتب الغارقة.
البيت في العديسة كان ما زال يحوي مكتبة من الكتب القيمة والنادرة يفوق عددها الألفين مع عدد من اعمال الفنان الزيتية، ولغيره من الفنانين، بالإضافة ال دراسات ورقية كثيرة، ومجموعة من المسودات الأصلية لكتب واشعار، ومحترف فني مليء بعدة الرسام الخاصة، وتحف وأثريات ومقتنيات قيمة. اما ما هو اكثر أهمية من هذه الماديات فهو احتواء المنزل على رفات عبد الحميد بعلبكي وزوجته في حديقة البيت.
على هذا الأساس، لن تكون دمعة الزميل حسين أيوب موضع استغراب، وذلك خلال إطلالته على قناة "الجديد" مؤخراً، وهي التي لم تأتِ فقط حزناً غلى منزل يضم ضريح والد زوجته، بقدر حزنه على ذاكرة ثقافية لبنانية، وألم شخصي وعائلي، يخصه هو بالذات، وينسحب كذلك على جميع أبناء الجنوب.