استحوذت "المنشيّة" المدمّرة، في مدينة بعلبك، على اهتمام وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي، وهي التي كانت شبه منسيّة لفترة طويلة. أبوابها مقفلة، كما نوافذها، بعدما تنوّعت وظائف غرفها (هي في الواقع عبارة عن غرفة واحدة فسيحة تغطي مساحة المبنى)، إلى أن تعطّلت هذه الوظائف. لكن الشهرة التي اكتسبتها المنشية، إثر تدميرها، لا تنفصل عن المبنى الذي ساهم في هذه الشهرة، وهي التي يقع قبالتها: أوتيل بالميرا، الذي نال بدوره حصته من الخراب الحاصل بنتيجة قصف المنشيّة.
في النصف الأول من القرن العشرين، لم يكن عدد الفنادق في بعلبك كبيراً. ثلاثة من هذه المباني ذات الطابع السياحي إشتُهرت، إلى جانب أوتيلات أخرى صغيرة، قد لا يزيد عدد غرفها عن عدد أصابع اليد الواحدة. أوتيل بالميرا، أوتيل خوّام وأوتيل عربيد، وكانت الأماكن الثلاثة المقصودة من السائحين أو سكان البلد، خلال فترات تاريخية مختلفة.
انتهى أمر أوتيل عربيد مع نهاية الإنتداب الفرنسي في لبنان، ولم يبقَ منه في الوقت الحاضر سوى بعض الحجارة، فيما قضت غارة جوية إسرائيلية على أوتيل خوّام. أما "بالميرا"، كما يسمّيه البعلبكيون، من دون ذكر صفته الوظيفية، إذ لا مكان سواه يحمل هذا الإسم، فما زال قائماً حتى اللحظة. ويقع المبنى في الضفة اليمنى لمدخل بعلبك، إذا ما أخذنا في الإعتبار المدخل التاريخي القديم الذي تخطته أعمال البناء، العشوائية في معظمها، لجهة الجنوب، لدرجة أنه صار من الصعب تحديد النقطة، أو حتى المساحة الجغرافية التي يمكن تسميتها مدخلاً. و"بالميرا" ذو تاريخ حافل من نواح كثيرة، نظراً لما شهده من حوادث يختلط فيها السياحي بالسياسي والعسكري. إضافة إلى ذلك، فقد ارتبط اسم الفندق بعائلة ألوف، أو بالرجل الذي كان صاحبه لفترة طويلة ميخائيل ألوف.ولد ميخائيل ألوف في 30 تشرين الثاني/يناير 1869 في بعلبك، وتوفي العام 1946. عمل في وظائف عديدة في المدينة: كاتباً في الدوائر الحكومية، وفي المحاكم القضائية، وبحكم ميله إلى التاريخ واطلاعه على مجرياته، أصبح، بين العامين 1890 و1900، الدليل الوحيد لآثار بعلبك الرومانية. ومن أبرز من عرّفهم ألوف على هذه الآثار، وجال معهم في أنحائها، كان إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني، الذي زار بعلبك في العاشر من تشرين الثاني من العام 1898. ثم عُيّن ألوف مأموراً على الآثار، في بداية القرن العشرين، وبقي في هذه الوظيفة 34 عاماً. بالإضافة إلى وظائف رسمية أخرى، ومنها رئاسة بلدية بعلبك، مما جعل منه أحد أشهر الشخصيات التي مرّت على المدينة في النصف الأول من القرن العشرين. أمّا أبرز أعماله المكتوبة، وربما الوحيد إلى جانب مذكراته، فكان كتاب "تاريخ بعلبك"، الذي صدرت طبعته الأولى في العام 1908.الملكة زنوبيا
شُيّد فندق بالميرا العام 1872، على يد المهندس اليوناني ميمكاليس باركلي. شغل البناء موقعاً مثالياً، وذلك عند مدخل بعلبك الجنوبي، بحيث تطل واجهته الأساسية على الهياكل الرومانية. ولا شك أن العامل الذي ساعد على هذا الخيار المميّز هو أن بعلبك كانت حينذاك مدينة صغيرة، توافرت فيها المساحات الفارغة، الخالية من الأبنية، مما سمح للمعمار بإختيار تلك الزاوية الإستراتيجية التي لا تفصلها عن الهياكل سوى مسافة 200 متر. وما يزيد من أهمية الموقع هو انعدام العوائق أمام المشهد البانورامي الممكنة معاينته من الفندق، إذ أن المساحة الفاصلة بينه وبين المعابد تقع ضمن المنطقة الأثرية، التي يُمنع فيها جميع أنواع البناء.
أما تسمية الفندق فتعود إلى تمثال نصفي للملكة زنوبيا، كان باركلي حمله معه خلال إحدى رحلاته إلى مدينة تدمر، وما زال هذا التمثال يحتل مكانه ضمن القاعة الرئيسة للفندق. بُني الفندق تبعاً للطراز الرائج في تلك الفترة في بناء البيوت البورجوازية، وتألف من طبقتين، وهو محاط بسور من الأعمدة الدائرية. إلى ذلك، تحيط بالفندق من الجهتين الغربية والشمالية حديقة، تزيّنها قطع أثرية وتماثيل نصفية من العصر الروماني، إضافة إلى بركة صغيرة استُعملت في بنائها حجارة صخرية منحوتة. كما تحتل مركز الواجهة في الطبقة الأرضية والطبقة العلوية أقواس ثلاثة، وهذا المقاربة المعمارية تُرى في مجمل المناطق اللبنانية، في العمارات العائدة لتلك الفترة التاريخية. يقول ميخائيل ألوف في مذكراته: "في تشرين الثاني 1922، طُرح أوتيل بالميرا للبيع بالمزاد العلني من أجل وفاء ديون صاحبه بركلي ميمياكي، المتوفّى خلال الحرب الكبرى. رسا المزاد عليّ بمبلغ 1400 ليرة عثمانية ذهبية، فسجلت ثلاثة أرباعها على أولادي الثلاثة إبراهيم ومنير وموسى، والربع الآخر اشتراه لنفسه صهري متري شامية وسجله على اسمه". ويذكر ألوف إن النزل كان متداعياً حد الخراب، فباشر في إعادة بنائه وتجهيزه بما تقتضيه الفنادق العصرية، فكلّفه ذلك 9000 ليرة ذهبية. ودُشّن الفندق في بداية العام 1924 (تشاء المصادفة أن يأتي هذا المقال بمناسبة مرور مئة عام على افتتاح الفندق بحلّته الجديدة). وقد تولّى إدارة الفندق نجل ميخائيل ألوف، إبراهيم، في بادىء الأمر، ويذكر:" أضحى للنزل شهرة في عالم السياحة والإصطياف، بالرغم من مناوأة أصحاب فنادق بعلبك ومزاحمتهم له مزاحمة معيبة" (عادة لبنانية مترسخة منذ القِدَم، كما يبدو).
في العام 1925، هبّت الثورة في أنحاء عديدة من سوريا ضد الانتداب الفرنسي. تعرّض المسيحيون خلال تلك الفترة لبعض المضايقات، ما دفع ميخائيل أالوف إلى النزوح مع عائلته إلى ذوق مكايل، وبقي هناك حتى أوائل نيسان 1926، حين هدأت الحال نسبياً.استقبل أوتيل بالميرا، منذ إنشائه، عدداً من الشخصيات العالمية. ساعد في ذلك كونه الفندق الأفضل تجهيزاً من جهة، ومن جهة أخرى لكون ميخائيل ألوف، صاحب الفندق، وبحكم عمله كدليل سياحي يتقن، إلى حد ما، أكثر من لغة، استطاع جذب بعض تلك الشخصيات إلى فندقه بعيد مرافقتهم في أنحاء الهياكل.يقول ألوف في مذكراته: "ما لقيت في حياتي إمرأة أكثر لطفاً وأجمل خلقاً وخُلُقاً من الملكة ماري الرومانية وكريمتها البرنسس إيليانا على جلالة قدرهما... كنت أفضي ببعض المعلومات للملكة... أما البرنسس إيلينا فكانت تلازمني دائماً مع السيدة لاهوفاري فأحدّثهما عن الهياكل وألفت أنظارهما إلى ما حوته من عظمة ومدهشات... وكانت جلالتها قد أمرت أن تُعد لها مائدة شاي في البهو العلوي للنزل (دعت إليها العديد من حاشيتها مدنيين وعسكريين) وتكرّمت بدعوتي أيضاً... وكانت تشير إلى المدعوين فيأخذوا مراكزهم.. وكان إلى يسار جلالتها البرنسس إيليانا، وجلستُ إلى يسار البرنسس وإلى جانبي مدام لاهوفاري ثم الكابتن لورانس وبعده الموسيو لاهوفاري ثم إحدى سيدات الشرف". حدث ذلك بداية شهر آذار 1930،
هذا أحد الأمثلة الكثيرة عما كان يجري ضمن جدران أوتيل بالميرا.وزار الملك ميلان السرلي، بعلبك، في أيار 1889، وحل في أوتيل بالميرا مع عقيلته في غرفتين منفصلتين. إذ، على ما يقول ميخائيل الوف في مذكراته، كان الملك زير نساء، وربما وعد نفسه بمغامرة ليلية. لكن أمنيته لم تتحقق بسبب السيد بركلي، صاحب الفندق، إذ سهر بركلي ليلته في بهو الفندق من أجل راحة الضيف وسلامته، بحيث كلما خرج الملك من غرفته ليلاً اصطدم به، فيؤدي له بركلي التحية وقوفاً، ويعود إلى مهمته كحارس ليلي. وهكذا لم يأخذ الملك راحته في جولاته الليلية، التي بقيت بلا نتائج ملموسة.ولنا، في زمننا هذا وفي هذه الأيام تحديداً، أن نتصوّر تلك الأجواء "المخملية"، التي تعود إلى حوالى 75 عاماً مضت. أما مقارنتها بما يجري في الوقت الحاضر، مع صورة الفندق الذي تحطّمت محتوياته إثر الغارة الوحشية على المنشية، فإن مقارنة من هذا النوع تدعو إلى الحزن والحسرة، وكأننا هنا في صدد لحظات تاريخية ماضية تبدو أقرب ما يكون إلى حلم من الأحلام.