في العام 2020، كان الممثل السوري غسان مسعود يؤدي دور البطولة في المسلسل البوليسي "مقابلة مع السيد آدم" الذي استخدم بشكل ممنهج صوراً لضحايا نظام الأسد المخلوع في المعتقلات والسجون، وتم تسريبها العام 2015 عبر الضابط المنشق المعروف باسم "قيصر"، تنفيذاً لتعليمات رسمية وجهت حينها بالاستخفاف بالمعتقلين وضحايا التعذيب في البلاد. وعُرضت صور قيصر على أنها صور لضحايا قتلوا في سياق المسلسل من قبل عصابة تتاجر بالأعضاء، وذلك بعد عام من من استنفار مماثل تجاه ضحايا الهجمات الكيماوية أسفر عن مسلسلات سخرت من القضية بوصفها "أخباراً كاذبة".
وحاول المسلسل حينها خلق انطباع بأن ضحايا التعذيب راحوا نتيجة جرائم جنائية، لا يتحمل مسؤوليتها النظام. ويظهر التناقض اليوم عندما يؤدي مسعود دور البطولة في مسلسل جديد يحمل عنوان "قيصر" ويتم تصويره في سجون سوريا التي تحررت من نظام الأسد في كانون الأول/ديسمبر الماضي، من دون التفات إلى ماضيه في دعم نظام الأسد أولاً، وحساسية القضية ثانياً، في حين مازالت سجون البلاد سيئة السمعة من دون حراسة وحماية للأدلة التي فيها.وأشارت تقارير إعلامية إلى أن المسلسل مكوّن من 30 حلقة مقسمة إلى 10 ثلاثيات، ويشارك فيه عدد من الكتّاب من بينهم نجيب نصير وعدنان العودة، وهو من إخراج صفوان مصطفى نعمو، ويشارك فيه إلى جانب مسعود، دانا مارديني وجوان خضر وفاديا خطاب وغيرهم. وقال مسعود أن مشاركته في العمل "تمثل مسؤولية فنية وأخلاقية"، لأن العمل "ليس مجرد دراما، بل هو توثيق لمرحلة مفصلية في تاريخ سوريا"، مضيفاً أن "الشخصيات التي نؤديها ليست من وحي الخيال، بل هي أصوات حقيقية عانت وواجهت مصيرها في تلك الفترة".وذلك التصريح يعتبر مشكلة بحد ذاته، لأن الدراما كمنتج فني مسلٍّ، لا ينبغي أصلاً ان تكون توثيقاً سياسياً ولا أن تحمل قضايا مصيرية مثلما تم تكريسها طوال حكم الأسد لسوريا بوصفها منتجاً ثقافياً شبه وحيد في البلاد مع تحويل صناع الدراما إلى مفكرين وصحافيين وموثقين وباحثين وناقلين لواقع الناس. رغم أنه لا يفترض بهم الاضطلاع بتلك الأدوار أصلاً، بل فقط تقديم قصص مقنعة، حول حياة الناس أو حياة الفضائيين، لا يهم، وهو ما يلاحظ حتى بعد سقوط الأسد مع تصدر الممثلين لوسائل الإعلام من أجل حديثهم عن الأوضاع السياسية، أو تصدرهم مؤتمر الحوار الوطني الذي عقد في دمشق، كوجوه حصرية للثقافة في البلاد!المشكلة لا تنحصر في مسعود "المكوّع"ووجود مسعود في المسلسل هو حبة الكرز الصغيرة فوق كعكة الكارثة الأخلاقية التي يمثلها هذا النوع من الأعمال، بسبب ماضيه في دعم نظام الأسد، هو الذي اعتبر في لقاءاته الصحافية طوال سنوات أن "الجيش العربي السوري هو ضمان السيادة الكبرى" حسبما قال لـ"تلفزيون المنار" التابع لـ"حزب الله". إضافة إلى استنكاره "شيطنة" "الجنود البواسل" في تصريحات مماثلة لـ"التلفزيون السوري". لكن توجيه الغضب نحو الممثل فقط بوصفه "شبيحاً" أو "مكوعاً" يبقى مشكلة أيضاً في بلد تغيب عنه حتى اللحظة أي آلية للعدالة الانتقالية، مع تحجيم أي قضية وحصرها في أشخاص من دون تقديم سياق أوسع، سياسياً وثقافياً واجتماعياً.والحال أن المسلسل ليس الوحيد من نوعه، بل سبق أن أعلن الممثل المعارض لنظام الأسد جمال سليمان، عن مسلسل آخر من بطولته وكتابة سامر رضوان، تدور أحداثه في "سجن صيدنايا المركزي"، من دون أن يحدث الإعلان استياء مماثلاً رغم أنه يشكل أيضاً فكرة مستفزة أيضاً. وذلك لأن مأساة مثل صيدنايا تحتاج إلى جهود حقوقية من أجل التوثيق والمحاسبة، بدلاً من تنفيذ مسلسل درامي يرقص فوق الجثث، لا أكثر.وقال مخرج مسلسل "قيصر" صفوان مصطفى نعمو، أن "المسلسل ليس مجرد دراما تقليدية، بل هو شهادة تاريخية توثق الأحداث كما عاشها أصحابها، مضيفاً: "حرصنا على التصوير في أماكن حقيقية لأنها تحمل بين جدرانها قصصاً حقيقية، وأردنا تقديم تجربة بصرية ووجدانية تجذب المشاهد ليعيش معاناة الشخصيات بكل تفاصيلها"، ويتم تأطير كل ذلك على أنه "سابقة تاريخية لإضفاء أقصى درجات الواقعية على الأحداث"!لا يختلف ذلك عن "الفلسفة الدرامية" التي قدمها مخرج النظام السوري الأول، نجدة أنزور، والذي صوّر العام 2013 ثلاثية من سلسلته التلفزيونية "تحت سماء الوطن" بالقرب من مدينة داريا المحاصرة حينها، كي يستفيد من الدمار الموجود في المكان لإضفاء طابع واقعي، رخيص الكلفة، على العمل المصمم بأكمله لنقل البروباغندا الرسمية حول الحرب في البلاد، بطريقة "فنية".هَوَس بالواقعيةوالهوس بالواقعية لدى صنّاع الدراما السورية، مشوّه، لأنه يحرم الفن من الخيال ويحرم المشاهد من المتعة ويكشف كيف ينظر صناع الدراما لأنفسهم على أنهم ناقلون للصوت الرسمي لا أكثر، حتى مع عدم وجود سلطة توجههم بذلك بعد سقوط الأسد. ويصبح ذلك مشكلة أخلاقية في بلد عانى الحرب والانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان. ويمكن النظر إلى تصريح قديم للمخرج أحمد إبراهيم أحمد قبل سنوات حينما قال: "تنفق الشركات العالمية آلاف الدولارات من أجل صناعة ديكور دمار أو تمثيل مشهد حربي. أما هنا فلا ننفق شيئاً، أرضنا أصبحت مسرحاً درامياً حياً". بينما قال المخرج سمير حسين، خلال تصويره مسلسله "فوضى" العام 2018، وهو واحد من أسوأ ما قدمته الدراما السورية في تاريخها: "أبهرني مشهد الدمار في مدينة داريا، واستفدنا من الأصوات الناجمة عن قصف المدافع وإطلاق الرصاص حتى أننا أدخلناها في مشاهدنا".ويقدم صنّاع هذه الدراما السوريون، مقاربة عجيبة، بتشبيه أعمالهم بسينما الواقعية الإيطالية الجديدة، وهي تيار سينمائي ظهر في إيطاليا خلال الحرب العالمية الثانية، رغم أن الفارق شاسع بين الحالتين. فالدراما السورية لم تهتم يوماً بالناس وأصحاب البيوت المدمرة والحياة التي كانت موجودة وتم إزهاقها مرة بعد مرة بدم بارد، سواء بقصف قوات النظام أو بالتعذيب في السجون، لأن القصص يجب أن تروي قصة "سورية صرفة"، وتغليف ذلك على أنه الواقع أو النسخة الصحيحة منه على الأقل.والسؤال يتمحور هنا عن سبب "الضرورة" التي يشعر بها صناع الدراما للحديث عن مأساة السجون والمعتقلات والتعذيب، بعد عقود من الصمت. فهم من جهة، يملكون الحق للتعبير عن أنفسهم بحرية عن الواقع السياسي المحيط بهم، لكن من جهة ثانية فإن التصوير في السجون قد يشكل تخريباً لها لا يمحو فقط الآثار الفيزيائية الموجودة كدلائل على الفظائع المرتكبة من قبل النظام المخلوع، بل يشكل أيضاً عدم احترام للضحايا واستهتاراً بقضية المعتقلين. وهو عبث بالذاكرة الجمعية للسوريين، لأن تلك الأماكن يجب أن تبقى شواهد للأجيال المقبلة على المأساة كي لا تتكر. ولا يمكن تخيل شعور معتقلٍ ما ما وهو يفتح التلفزيون مثلاً ليُصدم بمشهد مصور في الزنزانة نفسها حيث كان يعاني أشد أنواع التعذيب، مثلاً.عبث بالذاكرة وبحقوق الضحاياوأظهرت الأسابيع الماضية استخفافاً كبيراً بقضية المعتقلين، حيث تُرك الأهالي ليبحثوا بحرية في السجلات مع تدمير للوثائق والأوراق، وغياب المنظمات الحقوقية والمدنية ذات الصلة عن المشهد. وكان صناع المحتوى يدخلون ويخرجون، فيما شهد بعض السجون فعاليات للرسم على الجدران إلى جانب تقارير إعلامية عن أشخاص يقومون بتفكيك الزنزانات في سجن صيدنايا لبيعها كقطع خردة، في ما يبدو أنه "تعفيش" منظم.وباتت الزنازين المظلمة، حيث كان التعذيب والموت يحصلان بطريقة ممنهجة طوال 54 عاماً في مختلف مدن البلاد، مكاناً لجذب المشاهدات في مواقع التواصل ولترويج المسلسلات الدرامية، بدلاً من العناية بها وحمايتها كدرس "تنذكر وما تنعاد"، ومن أجل البدء بعملية محاسبة في إطار العدالة القانونية لاحقاً، فيما يكرر ناشطون وصحافيون الحديث عن أجندة ممنهجة من قبل فلول النظام السابق لطمس الأدلة وعرقلة الوصول للعدالة.وطالبت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في كانون الثاني/يناير الماضي، الإدارة السورية الجديدة، بالحفاظ على الأدلة والوثائق التي تم العثور عليها في السجون والفروع الأمنية التابعة للنظام السوري السابق، مضيفة أن "عشرات آلاف السوريين اختفوا قسراً على أيدي أجهزة الأمن والمخابرات التابعة للأسد، ومن حق العائلات معرفة الحقيقة، ولذلك يجب الحفاظ على أدلة الفظائع التي ارتكبتها الحكومة السابقة". وأعربت المنظمة عن قلقها من أن الأدلة الحاسمة على الفظائع التي ارتكبها النظام السابق، معرضة لخطر التلف أو التدمير أو الضياع، محذرة من أن ذلك يُضر بجهود العدالة للضحايا والناجين وجميع الذين مازالوا في عداد المفقودين وعائلاتهم.